غزة الأبيَّة.. تاريخ مئة عام من الصمود والمقاومة – البوكس نيوز
البوكس نيوز – اخبار – نتحدث اليوم حول غزة الأبيَّة.. تاريخ مئة عام من الصمود والمقاومة والذي يثير الكثير من الاهتمام والجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكما سنتناول بالتفصيل حول غزة الأبيَّة.. تاريخ مئة عام من الصمود والمقاومة، وتعد هذا المقالة جزءًا من سلسلة المقالات التي ينشرها البوكس نيوز بشكل عام.
“أتمنى أن أستيقظ ذات يوم من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر”.
إسحاق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (1)
في كتابه “سلام الأوهام: المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل”، كتب الصحافي المصري “محمد حسنين هيكل” تحليله الخاص لاتفاق “أوسلو” الموقَّع عام 1993، وهو أول اتفاق رسمي بين الاحتلال الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية، الذي اعترفت بموجبه السلطة الفلسطينية تحت رئاسة ياسر عرفات بدولة الاحتلال الإسرائيلي، بعد سنوات طويلة من العمل المُسلَّح. وقال هيكل إن إسحاق رابين، رئيس وزراء الاحتلال، رغم كونه الفائز الوحيد في تلك الاتفاقية التي حوَّلت تل أبيب إلى شريك في الأرض باعتراف عرفات، لم يكن ليقبل بالجلوس مع الفلسطينيين إلا بسبب عجز جيشه عن التعامل مع المقاومة داخل قطاع غزة، ولذا كان الإسرائيليون في حاجة إلى فصيل فلسطيني يحكم قطاع غزة بما فيه من أعباء ومشكلات، ويتولى عنهم مهمة القضاء على تلك المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، التي فشلت إسرائيل في كسر عظامها جيلا بعد جيل (2).
في بقعة ضيقة مُثقلة بالذكريات المريرة، يشغل قطاع غزة المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، بمساحة لا تزيد على 360 كيلومترا مُربَّعا، لكنها خاضت وحدها سبع حروب مع إسرائيل في أقل من 15 عاما، ونفضت عن الاحتلال تلك الصورة التي رسمها لنفسه أمام الرأي العام العالمي بوصفه جيشا لا يَخضع ولا يُقهر. واليوم، تواجه إسرائيل التي اضطرت عام 2005 إلى إخلاء مستوطناتها هناك والانسحاب كليا من القطاع أسئلة صعبة تتعلق بتقرير المصير، كون غزة هي آخر القلاع الباقية من قضية أوشكت أن تندثر، وتعتبرها إسرائيل رسميا “كيانا مُعاديا”، والتهديد الأساسي الذي يحول دون تحقيق حلم السيطرة الكاملة على كامل أرض فلسطين.
غزة.. بوابة فلسطين
قبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها، دخل “الحُسين بن علي”، شريف مكة، في مفاوضات سرية مع المندوب السامي البريطاني في مصر هنري ماكماهون، التي عُرفت لاحقا بمراسلات “حسين-ماكماهون”. وتحكي الوثائق السرية قصة صفقة قدَّمها الرجل ساهمت في إسقاط الخلافة العثمانية، حيث عرض الأمير العربي أن يقاتل بقواته إلى جانب البريطانيين ضد الأتراك، مقابل الاعتراف باستقلاله عن الدولة العثمانية. وبالفعل هاجمت القوات البريطانية ومعها القوات العربية الشام، وكانت مدينة غزة في قلب تلك المعارك، باعتبارها بوابة فلسطين. وخاض الطرفان ثلاث معارك فاصلة، واستطاعت الدولة العثمانية وحلفاؤها الألمان الانتصار في معركة غزة الأولى والثانية، لكنها خسرت الثالثة رغم استماتة أهلها في الدفاع عنها.
يقول المؤرخ الفرنسي “جان بيير فيليو” في كتابه “تاريخ غزة” إن القوات البريطانية فقدت نصف عتادها أثناء المعركتين الأولى والثانية، ولم تفلح الجيوش في اقتحام المدينة حتى استبدلت بريطانيا بقائد الحملة قائدا آخر أحضر معه كمية كبيرة من المعدات الجديدة، بما في ذلك نحو ستين طائرة. وقد أجرت قوات القائد الجديد اتصالات مع الثوار العرب الموالين للشريف حسين، واستندت خطة الهجوم خاصته إلى قصف مدفعي ضخم، إلى جانب هجمات جوية وقصف بالمدافع البحرية. ورغم ذلك قاومت المدينة بضراوة، حتى تراجعت القوات العثمانية حين يَئسَت من الانتصار. وبسقوط غزة بات الطريق إلى القدس مفتوحا، وأصبح سقوط فلسطين مسألة وقت لا أكثر (3).
أصبحت غزة عام 1917، ومعها باقي فلسطين وبلاد الشام والعراق، مستعمرة بريطانية رسميا، بعدما كانت تخضع للعثمانيين طيلة أربعة قرون تقريبا. ورغم أن لندن وعدت رجال الثورة العربية الكُبرى بإنشاء “مملكة عربية” في الشرق الأوسط خالية من الحكم العثماني، فإن بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى اقتسمتا أراضي الدولة العثمانية بعد سقوطها بموجب اتفاقية “سايكس بيكو”. ومن ثمَّ بدأ الاستعمار في تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، تنفيذا لوعد بلفور الذي أطلقته بريطانيا من أجل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي أثناء الاحتلال عملت الحكومة البريطانية على استجلاب اليهود من شتى دول العالم وتنظيمهم وتقديم الدعم لهم لتأسيس دولة إسرائيل.
بعد ثلاثة عقود من الاستعمار البريطاني، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1947، قدَّم ممثل المنظمة الصهيونية العالمية في عصبة الأمم “فيكتور جاكوبسون” خطة تبنَّتها الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة عربية، ولعبت غزة دورا رئيسيا في هذه الخطة، حيث أصبحت وفق القرار القطاع الساحلي الوحيد الذي يبقى تحت السيطرة العربية. وفي المقابل هُجِّر أكثر من 100 ألف فلسطيني إليها مقابل تعويضات مالية، في وقت سُمح فيه للعصابات اليهودية بالقدوم إلى فلسطين، كما كان من المقرر أن يستولي اليهود، الذين بلغ عددهم ثلث سكان فلسطين فقط آنذاك، على أكثر من نصف أراضيها، بما في ذلك الأراضي الخصبة في السهل الساحلي. واعتبر القرار مدينة القدس جسما منفصلا ومنطقة لا تُشكِّل جزءا من أيٍّ من الدولتين، على أن تُدار مباشرة بواسطة الأمم المتحدة استنادا إلى وضع قانوني خاص، ولم يستغرق الأمر طويلا حتى اندلعت حرب عام 1948 بعد رفض العرب قرار التقسيم.
غزة مصنع المقاومة
بعد يوم واحد فقط من الاعتراف الدولي بدولة الاحتلال، وصل نحو 10 آلاف جندي مصري، يرافقهم مقاتلون مصريون متطوِّعون، إلى مدينة غزة للاشتباك مع الجيش الإسرائيلي. وبسبب غياب الخرائط، ونقص الدعم العسكري تأخر الجيش المصري عن موعده، ولم يحقق أهدافه، وبقي يقاتل مدافعا داخل الأراضي العربية دون تقدم. ومن المفارقة أن المصريين الذين قاتلوا في فلسطين مثَّلوا أطيافا مختلفة من المجتمع المصري، فكان هناك المتطوعون من جماعة الإخوان المسلمين، كما شارك في الحرب جمال عبد الناصر، الذي أصبح رئيس مصر لاحقا بعد إعلان الجمهورية. وكان عبد الناصر شاهدا على تلك الأحداث، وكانت تجربة مشاركته في القتال داخل غزة، وحصاره مع زملائه في معركة الفالوجة، هي المُحفز الذي شكَّل الخطوط العريضة لخططه عندما عاد إلى القاهرة على رأس تنظيم “الضباط الأحرار” (4).
بعدما وضعت حرب 1948 أوزارها، أصبح الجيش المصري صاحب السيطرة على غزة، التي تحوَّلت إلى بيت لاستقبال اللاجئين الذين هجَّرهم الاحتلال من بيوتهم وأراضيهم. وقد ظلت غزة تابعة إداريا لمصر حتى هزيمة عام 1967، واجتاح الاحتلال غزة وسيناء، ومن ثمَّ فقدت مصر سيطرتها على القطاع. وفي المقابل، اقتطعت إسرائيل مساحات من غزة، وحصرت الفلسطينيين في مناطق ضيقة، وسلَّمت الأراضي المقتطعة إلى يهود متطرفين لإقامة المستوطنات فيها، حتى وصل عدد المستوطنات إلى نحو 20 مستوطنة. وقد عانى السكان في غزة من ويلات الاحتلال على مدار السبعينيات والثمانينيات حتى وقع حادث فارق غيَّر مسار الأحداث.
في ديسمبر/كانون الأول عام 1987، قام جندي إسرائيلي بدعس مجموعة من العمال الفلسطينيين الغزاويين، فاندلعت احتجاجات غاضبة في القطاع امتدت لاحقا إلى الضفة الغربية. وكانت الحجارة هي السلاح الذي استخدمه الفلسطينيون الذين استُشهد منهم 1550 فردا في ذلك الوقت، في حين جُرِح نحو 70 ألفا. وقد شهد العام نفسه الإعلان عن تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي تعهَّدت بتأسيس دولة فلسطينية على كامل أرض فلسطين.
يُذكر أن الاستخبارات الإسرائيلية كشفت قبل عامين من إعلان تأسيس الحركة رسميا عن أنها تجمع السلاح سِرًّا، ومن ثمَّ قرر الاحتلال القبض على زعيمها أحمد ياسين. غير أن عالم ما بعد أوسلو قلب الموازين الداخلية، فلم تتأثر حركة حماس باعتقال زعيمها، كما بدأت الحاضنة الشعبية للحركة الوليدة بالاتساع، وهي التي تأسست متبنية خيار المقاومة المُسلَّحة. ولم يكن غريبا أن صارت حماس في غضون بضع سنوات أقوى فصيل مُسلح يحارب الاحتلال في فلسطين (5).
أوسلو وما بعدها.. جيل جديد من المقاومة
في يوم 13 سبتمبر/أيلول 1993، وقَّع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، بالنيابة عن منظمة التحرير الفلسطينية (فتح)، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، اتفاق سلام في حديقة البيت الأبيض بواشنطن من أجل تشكيل “سلطة حكم ذاتي فلسطيني انتقالي”، وهو ما عُرِف بعدئذ بـ”اتفاق أوسلو” الذي مهَّد لمرحلة جديدة من تاريخ القضية الفلسطينية يرتكز إلى حل الدولتَيْن. كانت إحدى نتائج أوسلو هي تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، التي حصلت على سيطرة محدودة في بعض المناطق بالضفة الغربية وقطاع غزة. وقد وُقِّعَت عام 1995 اتفاقية أوسلو الثانية، التي أدت إلى انسحاب إسرائيلي محدود من بعض المدن في الضفة الغربية وتسليم سلطة أمنية منقوصة للفلسطينيين، وقد كان من الطبيعي أن يرفض الكثير من الفلسطينيين اتفاقية أوسلو ومخرجاتها لأنها أغفلت توضيح مصير عودة اللاجئين الفلسطينيين، كما تجاهلت الإشارة إلى مصير القدس.
ورغم أن اتفاق أوسلو ينص على أن مفاوضات الحل النهائي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يجب أن تبدأ بعد 5 سنوات من توقيعه، فإن جولات مفاوضات في مواضيع متفرقة تبعته، لكن دون التطرق إلى حل يُنهي الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وفي حين خضعت الضفة الغربية للتقسيم بموجب الاتفاق، فإن مسألة غزة لم يُتطرَّق إليها. وقد استمرت إسرائيل في السيطرة على حدود غزة والمجال الجوي والبحري التابع لها، ولم يشأ الاحتلال أن يفك قبضته على القطاع الذي بات محور المقاومة (حتى اضطرت إسرائيل مجبرة على الانسحاب من القطاع عام 2005 تحت وطأة ضربات المقاومة).
من جهة أخرى في ذلك الوقت، كان بنيامين نتنياهو من أبرز رافضي الاتفاق من الجانب الإسرائيلي، وهو زعيم المعارضة حينها، ورئيس الوزراء الحالي، إذ اعتبر أوسلو خطأ قاتلا، كونه يسمح لـ”دولة كراهية” على حد وصفه بأن تنمو بجوار دولة الاحتلال، في إشارة إلى المقاومة المتنامية التي تسكن غزة، والفصائل الأخرى في الضفة الغربية. وقد بدأ الإسرائيليون بعدها بالإسراع في مخططات توسيع المستوطنات، خلافا لبنود اتفاقية أوسلو.
ورغم رفض حركة المقاومة الإسلامية حماس وغيرها من الفصائل اتفاق أوسلو الذي لم تعترف به إلى اليوم، فإنها شاركت في العملية السياسية في فلسطين، جنبا إلى جنب مع الحفاظ على خيار المقاومة. وفي الانتخابات التشريعية عام 2006، فازت حماس بأغلب المقاعد، وشكَّلت الحركة حكومتها برئاسة إسماعيل هنية، لكنها قوبلت برفض إسرائيلي، وعرقلة داخلية انتهت بإحكام حماس سيطرتها على غزة عام 2007، وإقامة حكومة لم تعترف بها السلطة الفلسطينية ولا إسرائيل (6).
بخضوع غزة لسُلطة المقاومة مباشرة، رأت إسرائيل في غزة “كيانا معاديا”، وفرضت عليها حصارا شاملا بحرا وبرا وجوا، واستعدت في العام التالي 2008 لبدء غزو بري كان الهدف منه هو إنهاء حكم حركة حماس في القطاع، والقضاء على المقاومة الفلسطينية ومنعها من قصف إسرائيل بالصواريخ. وقد فشلت إسرائيل في هدفها، وخاضت عدة حروب حتى يومنا هذا دون أن تنجح في استئصال المقاومة، وصولا إلى أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول و”طوفان الأقصى” التي مثلت ذروة التطور النوعي للمقاومة وذروة الإذلال للاحتلال. بقيت غزة أبية إذن رغم ظروفها الصعبة وكونها أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان، حيث يعيش فيها أكثر من مليونَيْ شخص اليوم يتمسكون بأرضهم ويرفضون الاستسلام، محافظين على إرث مدينة بُنيت منذ آلاف السنين، ومرَّت عليها نكبات عديدة، لكنها لا تزال صامدة وشامخة.
_________________________________________
المصادر
- تصريح إسحق رابين.
- محمد حسنين هيكل، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، الجزء الثالث، ص 398.
- Jean-Pierre Filiu, Gaza: A History.
- يوميات جمال عبد الناصر في حرب فلسطين.
- Blowback: How Israel went from helping create Hamas to bombing it.
- Netanyahu says those who opposed Oslo peace deal not to blame for Rabin killing.
وفي نهاية مقالتنا إذا كان لديك أي اقتراحات أو ملاحظات حول الخبر، فلا تتردد في مرسلتنا، فنحن نقدر تعليقاتكم ونسعى جاهدين لتلبية احتياجاتكم وتطوير الموقع بما يتناسب مع تطلعاتكم ونشكرًكم علي زيارتكم لنا، ونتمنى لكم قضاء وقت ممتع ومفيد معنا.