“مطمع الغزاة عبر القرون”.. لِمَ تُعد غزة مهمة إلى هذا الحد؟ – البوكس نيوز
البوكس نيوز – اخبار – نتحدث اليوم حول “مطمع الغزاة عبر القرون”.. لِمَ تُعد غزة مهمة إلى هذا الحد؟ والذي يثير الكثير من الاهتمام والجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكما سنتناول بالتفصيل حول “مطمع الغزاة عبر القرون”.. لِمَ تُعد غزة مهمة إلى هذا الحد؟، وتعد هذا المقالة جزءًا من سلسلة المقالات التي ينشرها البوكس نيوز بشكل عام.
مقدمة للترجمة
إذا قررنا أن نتأمل الحرب الإسرائيلية على غزة حاليا في ضوء تاريخ القطاع الطويل الذي يمتد لأكثر من 4000 سنة مضت، لتوصلنا سريعا لاستنتاج بسيط يقول إن غزة يجب أن تكون جزءا مركزيا في أي حل سياسي أو اتفاق دائم يتعلَّق بالنضال الفلسطيني. في الواقع فإن الحرب الحالية ليست إلا نتيجة لسياسات اتبعتها إسرائيل منذ عام 2006 لتضييق الخناق على أهل غزة وإنكار الهوية التاريخية للقطاع، وخلال هذه الفترة توهم قادة إسرائيل بأن تجاهل غزة تماما واستبعاد أكثر من مليوني فلسطيني من المعادلة الديموغرافية وعزلهم عن باقي سكان فلسطين هو الحل للقضية الفلسطينية من وجهة نظرهم، لكن التاريخ يثبت في كل مرة أن ذلك مجرد وهم. في هذه المادة من “فورين أفيرز” يتوسع جان بيير فيليو، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في معهد العلوم السياسية في باريس، في بيان الأهمية الإستراتيجية لغزة ودورها المحوري في المنطقة من خلال قراءة معمقة في تاريخها البعيد والقريب.
نص الترجمة
بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، اتضح أن ثمة أمرا واحدا لا سبيل للشك فيه، وهو أن القطاع الذي ربض في كنف العزلة آمادا طويلة قد عاد إلى مركز الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من جديد. فعلى مدار العقدين الماضيين، فرضت إسرائيل حصارا جويا وبحريا وبريا على غزة، وهو ما دفع الزعماء والهيئات الدولية للاعتقاد أن هذا القطاع المكتظ بـ2.3 مليون فلسطيني يمكن استبعاده من المعادلة الإقليمية إلى أجل غير مسمى. ومع ذلك، فاجأ الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول كلًّا من إسرائيل والعالم بأسره وتركهم مشدوهين، بل وكشف أيضا عن مدى خطأ هذه الافتراضات السابقة. والحقيقة أن هذه الحرب غيَّرت مجرى القضية الفلسطينية بأكملها، ووضعت غزة وشعبها في مركز أي مفاوضات مستقبلية بين إسرائيل والفلسطينيين.
على الجانب الآخر، لا ينبغي أن يبعث فينا هذا الظهور المفاجئ الحالي لقطاع غزة شعورا بالدهشة. فرغم أن الكثير من تاريخ المنطقة ربما يستكين حاليا في غياهب النسيان، فإن تاريخ غزة الذي يمتد لـ4000 عام يوضح أن التطورات التي شهدها في السنوات الـ16 الماضية كانت استثناء. فقد لعبت غزة دائما دورا محوريا في الديناميكيات السياسية في المنطقة، فضلا عن صراعاتها القديمة فيما يتعلق بالدين والقوة العسكرية. ومنذ فترة الانتداب البريطاني في أوائل القرن العشرين، كانت أيضا جزءا لا يتجزأ من الحركة الوطنية للشعب الفلسطيني. وبالتالي، فإن أي محاولة لإعادة إعمار غزة بعد هذه الحرب المدمرة ستبوء بالفشل إن لم تأخذ في الاعتبار الموقع الإستراتيجي للقطاع في المنطقة، وما قد يسهو عنه البعض أنه لا يمكن تحويل القطاع إلى منطقة منزوعة السلاح إلا من خلال رفع هذا الحصار الكارثي، وطرح رؤية إيجابية لتنميته الاقتصادية. وبدلا من محاولة عزل غزة أو فصلها سياسيا، يتعين على القوى الدولية أن تتكاتف للسماح لغزة باستعادة دورها التاريخي بوصفها واحة ازدهار ومفترق طرق حيويا يربط البحر الأبيض المتوسط بشمال أفريقيا وبلاد الشام. والأهم من ذلك كله هو ضرورة إدراك الولايات المتحدة وحلفائها أن غزة يجب أن تكون جزءا مركزيا في أي حل سياسي أو اتفاق دائم يتعلَّق بالنضال الفلسطيني.
واحة خصبة
وفي تناقض صارخ مع واقع غزة الحالي من فقر مدقع، وشُح شديد في المياه، ومآسٍ إنسانية لا تنتهي، اعتادت غزة لقرون عديدة أن تكون محل تبجيل لكونها واحة خصبة تحتضن بيئة نباتية كثيفة توفر ظلا باردا ومريحا للسكان، خاصة في ظروف الطقس الحارة. كما أن قيمتها الإستراتيجية لم تكن أقل أهمية، وذلك لقدرتها على ربط مصر ببلاد الشام. وقد أدى موقعها المتميز إلى أن تكون محل صراع منذ القرن السابع عشر قبل الميلاد، حينما غزا الهكسوس دلتا النيل من غزة، لكنهم هُزموا شر هزيمة على يد سلالة فرعونية مقرها طيبة وطُرِدوا في نهاية المطاف. وفي وقت لاحق، تخلى الفراعنة عن غزة لصالح شعوب البحر -المعروفين منذ ذلك الحين بالفلسطينيين- الذين أسسوا في القرن الـ12 قبل الميلاد اتحادا يضم خمس مدن، منها غزة ومدن تقع حاليا تحت الاحتلال الإسرائيلي مثل عسقلان وأشدود وعقرون وجت.
في العصور القديمة، شهد قطاع غزة على تاريخ طويل من التحولات السياسية والصراعات المدمرة جراء موقعه الجغرافي الذي لطالما كان مطمعا للغزاة، فتحول إلى ساحة معركة حاسمة وشديدة الأهمية بين أعظم الإمبراطوريات المهيمنة في تلك الحقبة. وبعد أن سقطت في أيدي الآشوريين والبابليين، استولى عليها “كورش الكبير”، مؤسس الإمبراطورية الفارسية في منتصف القرن السادس قبل الميلاد. لكن الصدمة الحقيقية جاءت بعد قرنين من الزمان، في عام 332 قبل الميلاد عندما فرض الإسكندر حصارا مدمرا على غزة لمدة مئة يوم وهو في طريقه إلى مصر. وخلال هذه الحرب المروّعة، قرر الجانبان تحصين مواقعهما بحفر العديد من الأنفاق تحت التربة الرملية الخفيفة لغزة، وهو ما يُشكِّل سابقة تاريخية للإستراتيجة التي تتبناها حماس ضد إسرائيل اليوم. وفي النهاية، فازت قوات الإسكندر، ولكن بتكلفة باهظة طالت جميع الأطراف، فقد أُصيب الإسكندر خلال الحصار وأطلق العنان لانتقام عنيف انسحق تحت وطأته سكان غزة، فذُبح حينذاك الكثير من الرجال في حين استُعبدت النساء والأطفال.
لكن أهمية غزة كانت أعمق من مجرد اقتصارها على قيمتها العسكرية فحسب. فبعد أن أصبحت مدينة مستقلة تملك سيادة كاملة على أراضيها خلال العصر الهلنستي (الذي بدأ من تاريخ وفاة الإسكندر الأكبر*)، باتت غزة فيما بعد مركزًا دينيًا رئيسيًا في القرون الأولى من المسيحية والإسلام. ففي عام 407 ميلاديًا، تمكن بورفيريوس، الأسقف المسيحي لغزة، من تأسيس كنيسة على أنقاض معبد زيوس الوثني الرئيسي في غزة آنذاك، كما ضمت في كنفها قديس آخر أشهر منه يُدعى هيلاريون (291-371)، أصبح قبره موقعًا شهيرًا أيضًا في غزة، وبها توفي جدُّ الرسول صلى الله عليه وسلم “هاشم بن عبد مناف القرشي” في تجارة له عام 525 م، وبعد أن حكمت الجيوش الإسلامية المنطقة في القرن السابع، أطلق عليها المسلمون اسم “غزَّةُ هاشم” (وفي القرن التاسع عشر، بنى العثمانيون جامع هاشم في مدينة غزة لتمييز موقع ضريح جد النبي هاشم بن عبد مناف).
في الفترة ما بين العصور الوسطى والقرن التاسع عشر، تلألأت غزة في عيون الغزاة بوصفها جائزة منشودة في صراعات القوى الكبرى في المنطقة، فتأرجحت تارة بين الصليبيين المسيحيين وجيوش المسلمين في القرن الثاني عشر، وتارة أخرى بين جنرالات المماليك والغزاة المغول في القرن الثالث عشر. وخلال قرنين ونصف من حكم المماليك لغزة، دخل القطاع عصرا ذهبيا، فزخرت المنطقة حينذاك بالعديد من المساجد والمكتبات والقصور، وازدهرت بفضل طرق التجارة الساحلية المتجددة. وفي عام 1387، أُسست قرية تجارية وسوق محصَّن في الطرف الجنوبي من غزة، وسرعان ما تحولت إلى مدينة خان يونس. وبحلول عام 1517، استولت الإمبراطورية العثمانية على غزة، ثم احتلها جيش نابليون بونابرت لفترة وجيزة بعد غزو مصر عام 1798. وخلال هذه الفترة، اشتهرت المنطقة بمناخها الخصب والمثمر، وبأهلها الودودين، وبحياتها الغنية ذات الجودة العالية. وفي عام 1659، وصف أحد الرحالة الفرنسيين غزة بأنها “مكان بهيج وممتع للغاية”، وبعد قرنين من ذلك، أبدى الكاتب الفرنسي بيير لوتي تعجبه من “حقول الشعير الشاسعة المكسوة بالخضرة الزاهية التي تمتلئ بها أراضي غزة”.
وفي عام 1906، رُسمت الحدود لفصل مصر التي كانت تحت الحكم البريطاني عن فلسطين التي كانت تحت الحكم العثماني، وأصبحت مدينة رفح نقطة مهمة على الحدود بين الإمبراطوريتين ومركزا للتبادل التجاري. لكن خلال الحرب العالمية الأولى، كانت الحدود محل منافسة شرسة بين القوات البريطانية والعثمانية؛ وبعد ثلاث محاولات، تمكن الجيش البريطاني عام 1917 من اختراق الخطوط العثمانية، وفي 9 نوفمبر/تشرين الثاني دخل الجنرال البريطاني إدموند ألنبي مدينة غزة المُدمَّرة، وفي هذا اليوم أعلنت حكومته عن وعد بلفور والتزامها بـ”إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين”.
لاحقا، منحت الأمم المتحدة بريطانيا السلطة والتفويض لإدارة فلسطين وتنفيذ الوثيقة التي تضمنت التزاما بدعم البرنامج الصهيوني وإقامة وطن قومي للشعب اليهودي. وفي الوقت الذي كانت فيه غزة من بين أقل المناطق استهدافا لإقامة مستوطنات يهودية فيها، غدت معقلا للقومية الفلسطينية خاصة خلال الثورة العربية الكبرى في الفترة من 1936 إلى 1939، وهي الفترة التي انتفض فيها الفلسطينيون ضد الاحتلال البريطاني وقاتلوا لينعموا بحقهم في دولة عربية مستقلة. لكن بدلا من الاستجابة لمطالبهم، أقرّت الأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني 1947 خطة التقسيم التي تنص على تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، مع انضمام غزة إلى الدولة العربية.
بذور النضال
ثم جاء عام 1948 ليُظهِر كيف تأثر قطاع غزة بدرجة كبيرة بالصدمات والأحداث الحاسمة التي حواها ذلك العام. ففي البداية شهد الجميع على فشل خطة التقسيم التي اقترحتها الأمم المتحدة، ورحبت بها القيادة الصهيونية، لكن مع ذلك رُفضتْ رفضا قاطعا من الفلسطينيين والدول العربية، وهو ما أدى إلى نشوب صراع مسلَّح بين اليهود والعرب. وسرعان ما بدأ اللاجئون ينزحون من يافا إلى غزة بأعداد مهولة. وإحدى المفارقات أن القوات البريطانية تنبأت آنذاك بالمعضلة الإنسانية المريرة التي يواجهها أهل غزة اليوم، واقترحت أن أفضل طريقة لوصول المساعدات إلى غزة ستكون عبر البر من القاهرة. وفي أعقاب إعلان الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون عن قيام دولة إسرائيل في مايو/أيار 1948، استعدت الدول العربية المجاورة لشن هجوم على إسرائيل، وبالفعل انتقل نحو 10,000 جندي مصري إلى غزة، غير أن المصريين لم يتمكنوا من الوصول إلى أبعد من مدينة أشدود، التي كانت على بُعد 20 ميلا شمال غزة.
وبحلول يناير/كانون الثاني عام 1949، لم تُهزَم الجيوش العربية فحسب، بل هُجِّر نحو 750 ألف فلسطيني من منازلهم، فيما أصبح يُعرَف بالنكبة. وفي فبراير/شباط من ذلك العام، أدت الهدنة الموقَّعة بين إسرائيل ومصر برعاية الأمم المتحدة إلى تحويل قطاع غزة إلى إقليم خاضع للإدارة المصرية مع وقف إطلاق النار. وبعد قرون من كونها تقاطعا إستراتيجيا ومركزا تجاريا حيويا للتجارة الإقليمية، تحولت غزة إلى “شريط” من الأرض محاصر بالصحراء ومعزول عن باقي فلسطين. وعلاوة على ذلك، أصبحت غزة التي تضم في كنفها نحو 80,000 نسمة من السكان المحليين ملجأ لنحو 200,000 نازح آخر من جميع أنحاء فلسطين الذين وصفوا غزة آنذاك بـ”سفينة نوح” المنقِذة لهم.
بعد النكبة، واجه اللاجئون الفلسطينيون أوضاعا صعبة لعدم وجود بنية تحتية ملائمة لاستقبال كل هذه الأعداد المهولة من السكان، وخلال شتاء عامي 1948 و1949، أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن موت عشرة أطفال يوميا بسبب البرد أو الجوع أو المرض الذي يفتك بهم. واضطر الناجون للبقاء في غزة بسبب وحشية صحراء سيناء وعدم وجود أي بدائل أخرى أمامهم سوى القطاع. أصبحتْ غزة التي شكَّلت نحو 1% فقط من المساحة السابقة لفلسطين أثناء الانتداب البريطاني وطنا لـ25% من الفلسطينيين المحاصرين هناك، بينما ابتلعت إسرائيل نحو 77% من هذه المساحة.
لم تصفُ الحياة من شوائب الكدر، وتأزمت الأوضاع في فلسطين إلى الحد الذي دفع الأمم المتحدة إلى تشكيل هيئة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين والتعامل مع الأزمة الإنسانية. لكن بالنسبة للفلسطينيين كان الأمر مختلفا، فقد زرعت هذه الكارثة المروِّعة بذور نضال جديد مستمر حتى يومنا هذا. وفي ديسمبر/كانون الأول 1948، أقرَّت الجمعية العامة للأمم المتحدة -التي وافقت على خطة التقسيم الفاشلة قبل عام- “حق العودة” للاجئين الفلسطينيين، سواء عن طريق العودة الفعلية أو من خلال التعويض المالي. وحق العودة كان مفهوما مركزيا في التطلعات الفلسطينية عموما، لكنه اكتسب معنى خاصا في غزة، نظرا للأعداد المهولة للنازحين هناك. وبما أن مصر لم يكن لديها أي مطالب سيادية على غزة، أصبح القطاع بيئة حاضنة للقومية الفلسطينية بتعزيز الانتماء الوطني والوعي بالهوية الفلسطينية.
وباعتباره أول زعيم لإسرائيل، أدرك ديفيد بن غوريون التهديد طويل الأمد الذي ستفرضه غزة على مواطنيه الإسرائيليين. وفي مؤتمر لوزان للسلام الذي عقدته الأمم المتحدة في سويسرا عام 1949، اقترح بن غوريون ضم قطاع غزة في مقابل السماح لـ100 ألف لاجئ فلسطيني بالعودة إلى منازلهم السابقة التي كانت ضمن الأراضي المحتلّة. لكن هذا الاقتراح أثار ضجة في كلٍّ من إسرائيل ومصر على حدٍّ سواء، حيث أصبح الدفاع عن غزة قضية وطنية. ونتيجة لذلك، اعترفت الأمم المتحدة بعجزها عن حل النزاع العربي الإسرائيلي، وأنهت مؤتمر لوزان وأنشأت مؤسسات “مؤقتة” بدلا من ذلك. وهكذا، تحولت هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين إلى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المعروفة باسم “الأونروا”، التي تعمل منذ ذلك الحين باعتبارها أكبر جهة عاملة ومزوِّدة للخدمات الاجتماعية في غزة. وفي تلك الفترة، بُنيت ثمانية مخيمات للاجئين في القطاع، أكبرها مخيم جباليا في أقصى شمال غزة، ومخيم الشاطئ الذي يقع على شاطئ مدينة غزة، وهي المخيمات التي دمرها جيش الاحتلال الإسرائيلي في هجومه الحالي على غزة.
على الجانب الآخر، استغرق الأمر عدة سنوات قبل أن يلجأ المقاومون إلى السلاح. في البداية، تمكنت كلٌّ من إسرائيل ومصر من تضييق الخناق على المقاومين، ولكن بحلول منتصف الخمسينيات، بدأ الزعيم المصري جمال عبد الناصر في التعاون معهم لشن غارات ضد إسرائيل، ومن هنا بدأت دورة الهجمات والردود المتبادلة التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالأراضي الفلسطينية حتى يومنا هذا. وفي أبريل/نيسان عام 1956، قُتل ضابط أمن إسرائيلي في مستوطنة زراعية قريبة من غزة على يد مقاتلين فلسطينيين، مما دفع موشيه ديان، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، إلى تحذير الإسرائيليين من ردود فعلهم تجاه الفلسطينيين، لأن المظالم التي وقعت عليهم لم تُحَل بعد وما زالت آثارها تغلي في المنطقة، مصرّحا بقوله: “دعونا لا نلقي باللوم عليهم اليوم. فمنذ ثماني سنوات وهم يقبعون في مخيمات للاجئين في غزة، وقد حوّلنا أمام أعينهم أراضيهم وقُراهم التي عاشوا فيها مع آبائهم إلى وطنٍ لنا”.
كان القضاء على وجود الفدائيين في غزة يُمثل أولوية قصوى بالنسبة لبِن غوريون وموشيه ديان. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1956، سيطر الجيش الإسرائيلي على القطاع بالتعاون مع فرنسا والمملكة المتحدة بعد حرب ضد مصر بقيادة عبد الناصر (العدوان الثلاثي)*. وخلال أربعة أشهر من الاحتلال، قتلت القوات الإسرائيلية نحو ألف فلسطيني (وارتكبت مجزرتين وثقتهما الأونروا، راح ضحيتهما على الأقل 275 شخصا في خان يونس، و111 شخصا في رفح). ضربت الصدمة بجذورها في عمق أرواح الفلسطينيين، لدرجة أنه عندما انسحب الإسرائيليون من غزة تحت ضغط الولايات المتحدة، طالب السكان الفلسطينيون بعودة الحكم المصري بدلا من وصاية الأمم المتحدة. وبذلك ضاعت حينذاك فرصة تاريخية لبناء كيان فلسطيني يمكن أن يتطور إلى دولة. وفي تلك الأثناء، فرَّ الفدائيون إلى الكويت، حيث أسسوا عام 1959 حركة التحرير الفلسطينية، المعروفة بفتح، بقيادة ياسر عرفات.
أما الاحتلال الإسرائيلي الثاني لغزة فبدأ في يونيو/حزيران عام 1967، بعد انتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة. قرر كلٌّ من ديان -وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت- بالتعاون مع إسحاق رابين الذي كان رئيسا لمكتبه، وأصبح فيما بعد رئيسا للوزراء، محو أي أثر للحدود بين غزة وإسرائيل، وكان في اعتقادهم أن جاذبية سوق العمل الإسرائيلية ستؤدي إلى إذابة الوعي القومي الفلسطيني وتلاشيه في النهاية. لكن على عكس توقعات إسرائيل، استمر السكان المحليون في تأييد حركات المقاومة لمدة أربع سنوات، إلى أن قرر أرييل شارون، القائد الإسرائيلي للمنطقة (الذي أصبح في وقت لاحق رئيسا للوزراء أيضا)، تدمير أجزاء من مخيمات اللاجئين، معتقدا أنه بذلك قد كسر ظهر المقاومة وقضى عليها.
استغلال التوترات
أدرك بعض قادة إسرائيل الذين يملكون رؤية بعيدة المدى إلى حدٍّ ما أن مشكلة اللاجئين في غزة لن تنتهي. وفي عام 1974 اقترح شارون ما اقترحه بن غوريون سابقا، وهو إعادة توطين عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في الأراضي التي احتلتها إسرائيل للتعامل ولو بصورة رمزية على الأقل مع مشكلات الفلسطينيين. ولكن مرة أخرى، رُفضت الفكرة تماما. وبدلا من ذلك، بدأت إسرائيل في استغلال التوترات بين التيارات السياسية الفلسطينية وتأجيج الصراعات بينهم. ومع اندلاع الاشتباكات بين التيارات السياسية عام 1980، بدا أن سياسة إسرائيل في تفتيت القوى الفلسطينية والاستفادة من التوترات بينها في غزة نجحت إلى حدٍّ ما. لكن بحلول أواخر الثمانينيات، وُلد جيل كامل عاش تحت وطأة ضغط مستمر من المستوطنين الإسرائيليين، ورغم أن عدد هؤلاء لم يتجاوز الآلاف، فقد نجحوا في تغيير المعادلات القائمة. وفي ديسمبر/كانون الأول عام 1987، اشتعل فتيل الانتفاضة الأولى من مخيم جباليا في غزة، ومنه إلى القطاع بأكمله ثم إلى الضفة الغربية.
في تلك الفترة، تحدى الشباب الفلسطيني الجيش الإسرائيلي بالحجارة والمقاليع، وحوّل الشيخ أحمد ياسين منظمته إلى حركة للمقاومة تُعرف اليوم باسم “حماس”. ومرة أخرى، لعبت المخابرات الإسرائيلية على التوترات بين حركات المقاومة لإضعاف الانتفاضة، وانتظرت حتى مايو/أيار 1989 لاعتقال الشيخ ياسين. لكن الانتفاضة الشعبية غيّرت بدرجة كبيرة المشهد السياسي في إسرائيل، وزادت الضغط على الحكومة الإسرائيلية للتوصل إلى حل سلمي مع وصول إسحاق رابين إلى منصب رئيس الوزراء في يوليو/تموز 1992. وقد أدى اتفاق أوسلو في سبتمبر/أيلول 1993 (وهو أول اتفاق رسمي بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية وأول اعتراف رسمي لجهة فلسطينية بإسرائيل)* إلى إنشاء السلطة الفلسطينية ومنحها سلطة محدودة على الأراضي التي انسحبت منها إسرائيل، وبتوقيع هذا الاتفاق انتقل ياسر عرفات إلى قطاع غزة بعد عشرة أشهر.
لكن سوء الفهم بين قادة منظمة التحرير الفلسطينية والسكان المحليين فيما يتعلق بمعنى التحرير عقَّد الأمور أكثر. اعتقد القادة أنهم بذلك حققوا تحريرا جزئيا للأراضي، بينما شعر الفلسطينيون أنهم دفعوا ثمنا باهظا لهذا التحرير. أدى سوء التفاهم هذا جنبا إلى جنب مع الفساد المستشري في السلطة الفلسطينية إلى تعزيز قوة حركة حماس. وفي عام 1997، أدى عمل استخباراتي إسرائيلي فاشل ضد قائد حركة حماس خالد مشعل في الأردن إلى اعتقال عملاء إسرائيليين. ولضمان إطلاق سراحهم، اضطر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين، الذي كان يقضي حكما بالسجن المؤبد في إسرائيل، وعاد منتصرا إلى غزة.
تسببت تلك الأزمة المتعلِّقة بعملية السلام في اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر/أيلول عام 2000. لكن موجة العمليات الفدائية الواسعة التي تبناها الفلسطينيون ساعدت في وصول شارون إلى السلطة في فبراير/شباط 2001، وبوصوله إلى السلطة حاصر ياسر عرفات في رام الله وقتل الشيخ ياسين في غزة. وقد اعتقد شارون أن انتصاره لن يكتمل إلا بانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، وكان هدفه الرئيسي هو تأمين خط دفاع إسرائيلي جديد حول القطاع. وبالفعل نُفِّذت الخطة دون أي استشارة مع محمود عباس، الذي تولى السلطة بعد عرفات. وبالتالي، دمرتْ لعبة شارون خطة التنمية التي وضعها الرئيس السابق للبنك الدولي جيمس وولفنسون بقيمة 3 مليارات دولار لقطاع غزة، وكان ولفنسون مبعوثا خاصا لرباعية الشرق الأوسط (وهي مجموعة تضم أربع دول، روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، للعمل على تعزيز وسائل التسوية والسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين).
تضييق الخناق حد الانفجار
إن الحرب الحالية التي تدور رحاها بين إسرائيل وحماس جاءت نتيجة لسياسات اتبعتها إسرائيل منذ عام 2006 لتضييق الخناق على أهل غزة وإنكار الهوية التاريخية الغنية للقطاع. وخلال الأعوام الستة عشرة الماضية، توهم قادة إسرائيل بأنهم وجدوا الصيغة المثلى لتجاهل غزة تماما باستبعاد أكثر من مليوني فلسطيني من المعادلة الديموغرافية وعزلهم عن باقي سكان فلسطين، فضلا عن دور السلطة الفلسطينية التي أعماها النزاع مع حماس في مقاومة أي محاولة لتخفيف الحصار على غزة، وهو الأمر الذي أدى إلى إضعاف شرعية السلطة الفلسطينية التي كانت تتراجع بالفعل.
لم تكتفِ الانقسامات داخل السلطة الفلسطينية بالقضاء على أي جهود لإحياء عمليات سلام فحسب، بل سمحت للمستوطنات الإسرائيلية بالتوسع بشراسة في الضفة الغربية. ومن وقت إلى آخر، انخرطت إسرائيل في شن حروب مستمرة على غزة فيما وصفه الخبراء بإستراتيجية “جز العشب”. وتروِّج إسرائيل خلال هذه الإستراتيجية لفكرة أن الحروب التي تشنها على غزة تُحقِّق توازنا مستداما في عدد الخسائر العسكرية، معتقدة أنها تتحكم في العمليات العسكرية بطريقة تقلل من خسائرها بغض النظر عن الخسائر الفلسطينية التي يكون أغلبها بين المدنيين. وأقرب دليل على هذا التفاوت هي الإحصائيات التي تُشير إلى أنه في عام 2009 قُتل 13 جنديا إسرائيليا بينما وقع 1,417 قتيلا فلسطينيا. وفي عام 2012 كانت النسبة 6 إسرائيليين مقابل 166 فلسطينيا، بينما في عام 2014 كانت النسبة 72 إسرائيليا مقابل 2,251 فلسطينيا، وفي عام 2021 قُتل 15 إسرائيليا مقابل 256 فلسطينيا.
أثبتت الأيام أن اعتقاد إسرائيل بقدرتها على تجاهل مأساة الواقع الإنساني في غزة مجرد وهم. فجاء يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول ليثبت ذلك بتغيير الوضع الراهن، لكن حملات القصف الشرسة التي أطلقتها إسرائيل على غزة منذ ذلك الحين، التي راح ضحيتها أكثر من 22 ألف فلسطيني حتى الآن، ونزوح الغالبية العظمى من سكان غزة، أرسلت موجات صادمة إلى العالم أجمع. ويكرر نتنياهو حاليا الخطأ ذاته الذي وقع فيه بن غوريون سابقا عام 1956 معتقدا أن بإمكانه “القضاء على حماس”، ولكن بارتكاب جرائمه هذه المرة على نطاق أوسع وتحت مراقبة العالم أجمع. ورغم ذلك يبدو أن إسرائيل ستظل محكوما عليها بالمطاردة من غزة التي كانت سببا في خلقها بمثل هذه القوة منذ احتلالها لفلسطين عام 1948.
في نهاية المطاف، لا بد لغزة أن تعود مرة أخرى إلى جذورها التي ظلت عليها لقرون بوصفها مفترق طرق مزدهرا. ولتحقيق ذلك يجب أولا وقبل كل شيء إنهاء سياسة الحصار مما يسمح للقطاع بالاتصال مجددا مع باقي المنطقة. وفي الوقت نفسه، وبالاعتماد على الدور التاريخي الذي تلعبه غزة بكونها مركزا تجاريا رئيسيا، فلا بد من وضع إستراتيجية متكاملة لإعادة التنمية، على غرار خطة الرئيس الأسبق للبنك الدولي جيمس ولفنسون التي طرحها عام 2005، لتمكين غزة من الانتقال من المساعدات الدولية إلى التمتع باقتصاد قائم بذاته. وبطبيعة الحال، سيكون من الصعب للغاية تحقيق أيٍّ من هذا، خاصة بعد الحرب الشرسة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة وتبشِّر بولادة جيل جديد من المقاومين، لكن قد تكون هذه الإستراتيجية هي السبيل الوحيد للخروج من دوامة القتل الحالية. وكما هو الحال لقرون عديدة، أصبحت غزة مرة أخرى في مركز حرب كبرى، لكنها ستظل أيضا مفتاح السلام والازدهار في الشرق الأوسط.
_____________________________________
ترجمة: سمية زاهر
هذا التقرير مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
وفي نهاية مقالتنا إذا كان لديك أي اقتراحات أو ملاحظات حول الخبر، فلا تتردد في مرسلتنا، فنحن نقدر تعليقاتكم ونسعى جاهدين لتلبية احتياجاتكم وتطوير الموقع بما يتناسب مع تطلعاتكم ونشكرًكم علي زيارتكم لنا، ونتمنى لكم قضاء وقت ممتع ومفيد معنا.