شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: الصحافة والحكومة وسمير رجب
البوكس نيوز – نتحدث اليوم حول شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: الصحافة والحكومة وسمير رجب والذي يثير الكثير من الاهتمام والجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكما سنتناول بالتفصيل حول شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: الصحافة والحكومة وسمير رجب، وتعد هذا المقالة جزءًا من سلسلة المقالات التي ينشرها البوكس نيوز بشكل عام.
هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشتُ فصولَها، انتصاراتها وانكساراتها، حلوها ومرها، اقتربت من صناع هذه الأحداث أحيانًا، وكنت ضحية لعنفوانهم في أحيان أخرى، معارك عديدة دخلتها، بعضها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي وقناعاتي.
أروي هذه الشهادات، بصدق وموضوعية، بعض شهودها أحياء، والبعض رحل إلى الدار الآخرة، لكن التاريخ ووقائعه لا تُنسى، ولا يمكن القفز عليها، وتزوير أحداثها.
1- سمير رجب راعي الانقلابات في الأحزاب
مع تصاعد الأزمة مع سمير رجب، رئيس مجلس إدارة التحرير، رئيس تحرير الجمهورية، فى نهاية عام1991، حاول العديد من المسئولين وقف الحملات المتبادلة، إلا أنهم فشلوا فى ذلك، خاصة وأن سمير رجب، كان قد أعد مع أطراف فى الدولة خطة لإغلاق الحزب والصحيفة التي سببت صداعًا للنظام فى هذا الوقت، ووصل توزيعها إلى أكثر من مائة ألف نسخة أسبوعيا وتصدرت المشهد الصحفي كأبرز صحيفة معارضه.
فى هذا الوقت كان الحزب يعانى من أزمة داخلية بسبب محاولة بعض أعضاء المجلس القيادي تغيير خط الصحيفة تجاه العديد من القضايا، وهو ما تصديت له بكل قوة وحسم، ومع استمرار الحملات المتبادلة بينى وبين سمير رجب، لجأ اثنان من أعضاء المجلس القيادي للحزب وطلبا مقابلة سمير رجب، الذي استقبلهما وتحدث معهما ووجد فيهما ضالته، خاصة بعد أن خاب أمله فى مجموعة أخرى كان يترأسها شخص يدعى (ح.ك) اقتحمت مقر الحزب وتمكنا من طردهم فى معركة جرح فيها أحدهم وتم تأديب الآخرين أيما تأديب.. وتوالت الاتصالات وتكررت الجلسات بين (ع.ر) الضابط السابق بجهاز أمن الدولة ومعه (ا.ع) وبين سمير رجب، الذى قدمهما إلى المسئولين بالدولة، وراح يجرى الاتصالات ببعض رجال الأعمال لتمويل العملية.
ووضعت الخطة على أساس جمع عدد من الناس وتلاميذ المدارس ودفع مبالغ نقدية لكل منهم للمشاركة فى عقد مؤتمر تحت مسمى «مؤتمر مصر الفتاة»، بهدف ضرب القيادة الشرعية للحزب وإغلاق الصحيفة وتغيير خطها السياسى بقيادة جديدة،
وتدفقت الأموال القذرة ونجح سمير رجب فى إقناع وزير الثقافة بتأجير قاعة سيد درويش بالإسكندرية لإقامة المؤتمر، وتم دفع مبلغ ضخم نظير تأجير هذه القاعة، وقد قدم على الدين صالح، إنذارات عديدة فى هذا الوقت إلى المسئولين بالحكومة، يحذرهم فيها من هؤلاء الذين يستغلون اسم الحزب دون أن تكون لهم أية صفة شرعية، لكن الكلام ذهب أدراج الرياح فقد كان المخطط قد اكتمل ولم تتبق سوى حلقته الأخيرة.
2 – المؤتمر المشبوه فى الإسكندرية
وجاء يوم الجمعة الثامن من مايو 1992، ومنذ الصباح الباكر حشد أعوان الحكومة وعملاء الأمن بعض أطفال المدارس وأفهموهم أن الدولة قررت تخصيص خمس باصات للقيام برحلة ترفيهية مجانية لهم إلى الإسكندرية وأن كل منهم سيحصل على مصروف خاص (حسبما نشرت مجلة روز اليوسف) وأن من حق أي تلميذ أن يصطحب والده و والدته وإخوته إن أراد وأن كلًا منهم سيحصل على ذات المبلغ الذى قدر بثلاثين جنيها للفرد الواحد.
وهكذا نجح مدرس فى معهد أزهري بالقليوبية، في أن يملأ الأتوبيسات الخمسة بهؤلاء الصبية وأهاليهم الذين لا علاقة لهم بالموضوع من قريب أو بعيد وكان كل ما يعرفونه فقط أنهم سيقضون يومًا على حساب الدولة فى الإسكندرية وأنهم سيحصلون فى نهاية الرحلة على ثلاثين جنيهًا (يا بلاش)!.
ووصلت الباصات إلى الإسكندرية صباح الجمعة، وهناك قام التلاميذ حسب ما أوردت صحيفة المساء في عددها الصادر في 9/ 5/ 1993 برحلة ترفيهية إلى حديقة الحيوان والشاطئ.
المهم، وبعد أن انتهت الرحلة الترفيهية التي استمرت حتى الثانية ظهرًا قيل للتلاميذ والأهالي إن هناك حفلة فى قاعة سيد درويش، وفى نهايتها انتخاب رئيس جديد لحزب مصر الفتاة بدلًا من على الدين صالح، الذي يعادي الرئيس مبارك شخصيًا، وأنهم يجب أن يشاركوا فى هذا اللقاء لأن الرئيس الجديد للحزب (ع.ر) سوف يصرف المكافأة بنفسه لكل المشاركين، وأن الأتوبيسات لن تعود بالأهالي والتلاميذ إلى بلادهم إلا بعد انتهاء المؤتمر.
وهكذا فمن لم تستهوه الفكرة وجد نفسه مرغمًا بالمشاركة فيها، وأمام قاعة سيد درويش انتشر رجال الأمن وبعض البلطجية الذين كان يقودهم أحد الضباط، وهكذا اكتظت القاعة بالصبية وأهاليهم ورجال الأمن والبلطجية وبعض المشبوهين.
ولم ينس سمير رجب، المؤامرة فقرر أن يدفع ببعض أتباعه فى الزفة، وقد لعب أحد هؤلاء دورًا رئيسيًا فى عملية تنظيم المؤتمر وهو الذى اشتهر بابتزاز الفنانين ونشر الأحاديث الكاذبة والأخبار المغرضة عن بعضهم لأغراض يعرفها كل العاملين بالمؤسسة.
وقام مندوب إعلانات سابق بتوزيع نشرة كان قد أصدرها باسم صوت مصر الفتاة الحر وتحمل عنوانًا رئيسيًا يقول «أبا علاء – يقصد الرئيس مبارك موعدنا معا.. عيد ميلادك هو مولدنا من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة، وأسفل هذا العنوان راح مندوب الإعلانات يقبل الأيادى ويبوس الأقدام معلنًا هو ومن معه أنهم الجنود المخلصين الذين يرتبط مصيرهم بمصير الرئيس”!!
وعند الثالثة من بعد ظهر الجمعة، أشار أحد الضباط الذى كان مسئولًا عن المؤتمر بأصبعه إلى بعض العناصر للصعود إلى المنصة تمهيدًا لبدء المسرحية الهزلية.
وفى دقائق معدودة اعتلى المنصة عدد من المشبوهين بينهم شخص سبق اتهامه فى عدة قضايا نصب وشيكات بدون رصيد ومندوب الإعلانات إياه، إضافة إلى ضابط الشرطة السابق وبدى الجمع وكأنهم كالعرائس تحركهم خيوط بعضها خفى والآخر معلن.
وياللعار عند ما تحدث مقاول الانفار، فجاءت كلماته ركيكة وتافهة تعكس ضحالة فكرية وسياسية تنم عن جهل شديد، وهكذا راح يعزف فاصلًا من الردح والشتائم قدم بعدها الضابط، حيث راح بدوره يقدم للحاضرين فاصلًا من النفاق المبتذل ويقدم نفسه على أنه الخادم الأمين القادر على أن يبيع كل شىء من أجل إرضاء سادته بأى ثمن.
وأمام تململ الحاضرين الذين أذهلهم تدنى مستوى العرض وشخوصه أسرع المقاول إلى القاعة تاركًا المنصة، وراح يردد الهتافات البذيئة ويحث الحاضرين على الهتاف من خلفه بينما كانت كاميرات الفيديو تسجل الحدث المهزلة.
وكان المشهد هزليًا، اقترب الضابط من المقاول وقال له «متخلص بقى وتنهى الهباب ده»، ولم يكذب المقاول خبرًا أو يعصى أمرًا، فعاد كالبهلوان إلى المنصة من جديد وراح يطرح اسم (ع.ر) كرئيس للحزب مع عزل على الدين صالح، الرئيس الشرعى للحزب، وعلى الفور بدأ صبيانه فى التصفيق والهتاف وكأنهم فتحوا عكا وانتهت المسرحية، ولكن قبل أن ينصرف المشاركون بدأت الخناقات حول الأموال، إذ رفض مقاول الأنفار الذى جاء بالصبية من القليوبية منحهم المبلغ كاملًا فاحتجوا وثاروا وطالبوا بقيمة ما تبقى من المبلغ المحدد، لكن أحدًا لم يلتفت إليهم ولم يعرهم اهتماما بعد أن انتهت مهمتهم وأدوا دور الكومبارس على الوجه الأكمل.
3- نهاية مهزلة قاعة سيد درويش
بعد أن انتهت مشاهد المسرحية الهزلية، بقى على الكومبارس أن يبلغوا السادة بوقائع ما جرى ويتلقون منهم التعليمات، وفى مطعم «تكة جريل» بالإسكندرية كان ضابط كبير فى مباحث أمن الدولة بالإسكندرية فى انتظارهم، واستمع منهم إلى وقائع ما جرى بسرعة بعد أن أدى خادم الحكومة الذى نصبوه رئيسًا جديدًا التمام أمامه، وعلى الفور وضع لهم اللواء صيغة بيان لتسليمه إلى مجلس الشورى وقال لهم إن كل شيء جاهز وإن الدكتور أحمد سلامة، وزير شئون مجلسى الشعب والشورى سيقوم باللازم وزيادة.
كانت الأنباء تصلنا عبر الهاتف لحظة بلحظة بفضل بعض الشرفاء الذين رأوا المهزلة بعيونهم وكشفوا أبعادها الخطيرة، فاختاروا الاستمرار معهم للاطلاع على كافة مخططاتهم وإبلاغنا بتفاصيلها أولًا بأول، حتى يمكن لنا مواجهة المؤامرة التي تهدف إلى عزل رئيس الحزب ومن ثم عزل رئيس التحرير وإحداث انقلاب على الخط السياسي للحزب والصحيفة وحتى هذا الوقت لم نتوقع أن تتحول المهزلة إلى حقيقة و واقع – لكن ذلك هو ما حدث فيما بعد.
وفى مساء ذات اليوم 8/ 5/ 1992 حدثني أخى محمود بكرى، نائب رئيس التحرير (رحمة الله عليه)، ولفت إنتباهى إلى ما كتبته صحيفة الجمهورية التي ستصدر اليوم التالي، وقال إنها نشرت خبرًا مطولًا على ثلاثة أعمدة فى الصفحة الأولى يقول «(ع.ر) رئيسًا لحزب مصر الفتاة، إسقاط على الدين صالح وإبلاغ النيابة ضده لجنة الأحزاب تجتمع خلال أيام لإقرار الوضع الجديد» واتصلت بالأستاذ على وتناقشنا فى الوضع، لكنه اعتبر أن هذه مجرد لعبة من الصحفي إياه شأنها كشأن كافة ألاعيبه السابقة ضد الحزب، لكن القلق بدأ يساورني عندما وجدت صحيفتي أخبار اليوم والأهرام تنشران الخبر ولو بشكل موجز فى طبعاتها الأخيرة من ذات الصباح، وجاءت صحيفة المساء فى 9/ 5 من نفس اليوم، واحتل الموضوع المانشيت الثاني والرئيسي بالصفحة الأولى كما احتلت التفاصيل الصفحة الثالثة بكاملها.. أما صحيفة مايو فقد اعتبرت أنها المعنية بهذا الوضع، فصدرت يوم الاثنين 11/ 5/ 92 وكان موضوع مصر الفتاة هو موضوعها الرئيسي.. كما حملت تصريحات (ع.ر) يؤكد فيها مساندة مصر الفتاة لمرشحى الحزب الوطني الحاكم فى مجلس الشورى، والأدهى أن سمير رجب، فتح له الطريق ليشارك فى مؤتمر جماهيري لدعم مرشحي الحزب الحاكم، فكانت مهزلة تندر بها الجميع.
لكن الغريب أن الصحف التى ساندت المتآمرين اختلفت حول عدد من شاركوا فى المؤتمر من البلطجية والمأجورين، فبينما ذكرت صحيفة أخبار اليوم، فى طبعتها الثالثة الصادرة فى 9/ 5/ 92 أن عدد المشاركين يبلغ ألف شخص قالت الجمهورية فى طبعتها الأولى بتاريخ 9/ 5 إن عددهم 1400 شخصًا ولكن هذا الرقم تحول بقدرة قادر إلى ألفين وخمسمائة فى الطبعة الثالثة من ذات الصحيفة.
4 – استنفار حزبي فى صفوف المعارضة
ذهبت إلى مكتبى فى الصباح الباكر، وكان القلق قد بدأ يساور المحررين أيضًا، وفى الثامنة من صباح ذات اليوم حضر الأستاذ علىِّ الدين صالح، إلى مكتب الصحيفة وعقدنا جلسة رباعية شاركنا فيها الأمين العام للحزب محمود المليجى، ومحمود بكرى، نائب رئيس التحرير لتدارس الوضع.
واقترح الأستاذ علىِّ الدين صالح، الاتصال بقادة المعارضة لإصدار بيان عاجل لاستنكار ما جرى، وتم بالفعل الاتصال بقادة المعارضة ونشرنا البيان فى صدر الصفحة الأولى من العدد 77 لمصر الفتاة الذى صدر يوم الاثنين 11/ 5/ 1992.. وتضمن العدد أيضًا الوقائع الكاملة لمهزلة ما اصطلح على تسميته بمؤتمر الإسكندرية.
كانت قيادات الصحفيين والحزب قد حبست أنفاسها تخوفًا من عدم صدور مصر الفتاة بعد الضجة الإعلامية التي أعد لها سمير رجب، مغير السياسات وراعى الانقلابات داخل الأحزاب، لكن العدد صدر وأكثر ما لفت الانتباه فيه هو مقال الأستاذ علىِّ الدين صالح، الذى شن فيها هجومًا شديد اللهجة على المعانى التى تضمنها خطاب الرئيس فى عيد العمال، وراح رئيس الحزب يكتب بلغة تهكمية عن الإنجازات التى لم تتحقق والوعود التى تبخرت فى الهواء والتى كان فى مقدمتها مشروع الألف يوم. كما تضمن العدد هجومًا شديدًا ضد سمير رجب، وممارساته داخل المؤسسة التى يتربع على عرشها.
5 – خادم السلطة
تنفسنا الصعداء بصدور العدد – وأيقن الكثيرون أن ما جرى هو فصل فى مهزلة لن تتوقف، وقال آخرون إن النظام أذكى من أن يتخذ قرارًا أهوجًا قد يفقده الكثير، لكن القلق ظل يساورنى لفترة من الوقت.
فى هذا الوقت كان (ع.ر) قد قدم إلى القاهرة ومن ميدان المحطة اتجه مباشرة إلى مكتب سمير رجب فى مؤسسة دار التحرير وصعد إليه على الفور بعد أن وجد أن اسمه مدرج ضمن الضيوف الذين سيستقبلهم فى ذات اليوم.
جلس إليه كالتلميذ الخائب، بينما راح سمير رجب يقول له: أنا حجيب لك الحزب، لكن إياك أن تغدر بى.. سأتغدى بك قبل أن تتعشى بى.
طأطأ (ع.ر) رأسه وقال بلغة منكسرة خدامك يا باشا، وبدأ الاثنان ومعهما عدد من المحامين يعدون الأوراق التي سيتقدم بها خادم السلطة إلى مجلس الشورى بعد أن صرح الوزير أحمد سلامة، أحد أركان المؤامرة وعضو لجنة شئون الأحزاب إلى صحيفة المساء فى 9/5 أن اللجنة سوف تجتمع خلال أيام لبحث موضوع مصر الفتاة، مع أن خادم السلطة لم يكن قد تقدم بأوراق إلى اللجنة حتى هذا الوقت، مما يعكس حقيقة الدور الذى لعبه الوزير أحمد سلامة فى هذه المؤامرة، ومن مكتب سمير رجب وأمام التلميذ جرت الاتصالات بكبار المسئولين فى لجنة شئون الأحزاب، وتم الاتفاق على أن يتقدم الخادم بالأوراق التي فى حوزته فورًا بعد أن تقرر عقد اجتماع عاجل للجنة على غير عادتها..
كان خادم السلطة (ع.ر) يمتلك ختمًا مزورًا للحزب – أقرت إحدى محاكم بورسعيد بأنه مزور فيما بعد، وحكم على من قام بالتزوير بستة أشهر سجن – وقد استخدم الخادم هذا الختم فى تزوير الأوراق والكارنيهات.. إلخ. وفى اليوم التالى قدم الأوراق.. وفى يوم الأحد 17/ 5/ 1992 اجتمعت لجنة شئون الأحزاب بحضور د.مصطفى كمال حلمى، رئيس مجلس الشورى ورئيس اللجنة وعضوية اللواء عبد الحليم موسى، وزير الداخلية والمستشار فاروق سيف النصر، وزير العدل ود.أحمد سلامة وزير الدولة لشئون مجلسى الشعب والشورى وثلاثة من المستشارين من رجال القضاء السابقين.
وجرت مناقشة الأوراق المقدمة من خادم السلطة، فاتضح أن جميعها غير كافية، وأن الأسماء الواردة فى الكشوف لا وجود لها ضمن أسماء أعضاء المؤتمر العام الأول للحزب، والذى عقد فى 19 أكتوبر 1990 والمقدم بأسمائهم كشف إلى مجلس الشورى، باعتبار أنهم وحدهم أصحاب الحق فى انتخاب أو تغيير قيادة الحزب، ولأن هناك قرارًا بالتغيير والتزوير فإن أية حجج من أي نوع لم يكن بقدرتها أن تمنع المضي فى المؤامرة، وهكذا تجاوز الجميع نص المادة 17من قانون الأحزاب والتي لا تجيز للجنة الأحزاب التدخل بأى شكل من الأشكال فى الشئون الداخلية لأى حزب من الأحزاب، وطلب الوزير أحمد سلامة، من رئيس اللجنة أن يمهله بعض الوقت لحين استكمال الأوراق مع تابعة، وبالفعل وافق الحاضرون على هذا التفويض.
بعدها وجه الوزير أحمد سلامة خطابًا باسم لجنة شئون الأحزاب إلى (ع.ر) حمل تاريخ 17/5/1992، قال فيه – «إنه بالإشارة إلى الكتب الواردة منكم بشأن المؤتمر العام لحزب مصر الفتاة الجديد الذى انعقد بمدينة الإسكندرية فى 8/ 5/ 1992.. تفيد أن هذا الموضوع عرض على لجنة شئون الأحزاب السياسية بجلستها المعقودة فى 17/ 5 فانتهى رأيها إلى تكليف سيادتكم تقديم ما يثبت أن من حضروا هذا المؤتمر لهم صفة فى حضوره طبقًا لأحكام المادة 27 من لائحة النظام الداخلى للحزب، والتى تقضى بأن يشكل المؤتمر العام من أعضاء اللجنة العامة – أعضاء أمانات القطاعات – أعضاء هيئات مكاتب المحافظات – أعضاء هيئات مكاتب لجان الأقسام والبنادر والمراكز، و وقع على الخطاب بالقطع د.مصطفى كمال حلمى بصفته!! لقد حصلنا على نسخة من هذا الخطاب فأدركنا أن نشوة الفرح التى انتابتنا خلال الأيام الماضية آن لها أن تتوقف، وأن المؤامرة جد خطيرة، لكننا لم نحصل على هذه النسخة إلا يوم الأربعاء، مع أننا أصدرنا العدد 78 يوم الإثنين 18/ 5/ 1992 يحمل مانشيت يقول «الله أكبر. سقطت المؤامرة وانتصرت مصر الفتاة» وكان عدد من زملائنا الصحفيين الذين كانوا يتابعون الأمر أثناء انعقاد لجنة الأحزاب قد اتصلوا بنا وأبلغونا أن الاتجاه السائد داخل اللجنة هو استبعاد الأخذ بمقررات مؤتمر الإسكندرية، وأن النية تتجه إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه استنادًا إلى عدم تطابق الأسماء الواردة من (ع.ر) على أعضاء المؤتمر الأساسيين والذين يوجد كشف بهم لدى اللجنة، وأجريت اتصالًا بأحد كبار المسئولين بمجلس الشورى، فنفى علمه بأن تكون لجنة الأحزاب قد اتخذت قرارًا من شأنه المساس بالقيادة الشرعية للحزب، كما أجرى على الدين صالح، اتصالًا بأحد أعضاء اللجنة ونفى له بشدة أن تكون اللجنة قد اعترفت بـ (ع.ر)، بل إن المسئول راح يمارس خداعه محاولًا إيهام رئيس الحزب بأنه هو الذى دافع عن وجهة النظر تلك حتى سيدها بين الحاضرين.
وعندما اتصلت بالأستاذ علىِّ الدين صالح، وقارنت بما ورد إلىّ من معلومات.. ساعتها أدركت أن اللجنة فى مأزق وأن الأمر قد حسم لمصلحة الشرعية.. ولهذا صدر العدد.78 فى اليوم التالى يحمل مانشيت الانتصار، كما أن شقيقى محمود بكرى، كتب افتتاحية رائعة فى صدر هذا العدد عن سقوط المؤامرة ودحر المتآمرين. ولم نكن ندرى أن الأيام تحمل لنا ما هو على النقيض من ذلك!
6- مشكلة مع نقابة الصحفيين
فى هذا الوقت كانت لدينا مشكلة حقيقية مع نقابة الصحفيين وتحديدًا مع النقيب مكرم محمد أحمد والسكرتير العام أمينة شفيق، فقد مضى أكثر من عام على طلبات كان قد تقدم بها عدد من الصحفيين بمصر الفتاة للقيد فى جدول النقابة.. وكانوا جميعهم مستوفين للشروط اللازمة. إلا أن النقيب والسكرتير العام قد لعبا دورًا فى عرقلة انضمام الصحفيين إلى النقابة.
الخطير فى الأمر أن الأستاذ مكرم محمد أحمد، كان يعرف أبعاد السيناريو كاملًا فقبل اجتماع لجنة الأحزاب مرة أخرى يوم السبت 23/ 5/ 1992 لإصدار قرارها النهائي بتغيير القيادة الشرعية كان الأستاذ مكرم يعرف صيغة القرار، وعندما حدثه أحد الزملاء يوم الأربعاء قبل اجتماع اللجنة عن أسباب تلكؤ النقابة فى قبول صحفيي مصر الفتاة قال إن الصحيفة ستغلق يوم السبت المقبل فدعونا ننتظر.. !!
أما كاتب السلطة، فكان يؤكد أن العدد 78 من مصر الفتاة هو آخر عدد يصدر برئاسة بكرى. يومها ضحك الجميع لكنه كان يتكلم بلغة الواثقين إلى درجة أنه أقسم بشرف إن لم يتحقق ذلك فسيترك موقعه فورًآ، هكذا قال!! وصدق كاتب السلطة فيما قال وفى نحو الواحدة من بعد ظهر السبت 23/ 5/ 1992 اتصل بي أحد الزملاء وقال: إنه يوزع بنفسه الشربات والحلوى احتفالا بنجاح الإنقلاب على مصر الفتاة.
وبعد قليل اتصل بى زميل آخر، يقسم بأغلظ الأيمان أنه سمع بنفسه سمير رجب، خرج إلى صالة التحرير يزف إلى الناس نبأ موافقة لجنة الأحزاب التي كانت مجتمعة منذ قليل على عزل على الدين صالح، وتولية (ع.ر)، وهكذا بدأت الأنباء تتوارد إلينا من زملاء فى صحف أخرى، ولم أتيقن الأمر إلا عندما اتصلت بأحد الزملاء فى وكالة أنباء الشرق الأوسط، وتأكدت أن الوكالة أذاعت الخبر فى أحد نشراتها منذ قليل.
7- اجتماع عاجل فى مقر مصر الفتاة
الآن أدركت عن يقين حجم المؤامرة، وأمسكت بالهاتف وحولي عدد كبير من الزملاء الصحفيين بالجريدة، واتصلت بالأستاذ على وأبلغته بالخبر فانزعج للغاية، وأبديت له مخاوفي على حالته الصحية، وقلت له يجب أن يتوقف عن الانفعال فقد خرج لتوه من أزمة قلبية أقعدته الفراش لعدة أسابيع.
طلب مني الأستاذ على، إبلاغ الأستاذ محمود المليجي، الأمين العام للحزب بضرورة الدعوة لعقد اجتماع عاجل للمجلس القيادي بمكتبه فى السادسة من مساء ذات اليوم لبحث الأمر.
وفى هذا الوقت كان الإعداد يجرى على قدم وساق لإصدار العدد 79 فى موعده المحدد صباح الاثنين، وكان شقيقى محمود، قد ذهب إلى مطبعة الأهرام منذ الصباح، حيث كان قد سبقه إلى هناك الزميل طلعت إسماعيل، مدير التحرير واتصلت بمحمود وأبلغته بالنبأ، فأصيب هو الآخر بالدهشة لبعض لحظات، واعتقد فى بداية الأمر أن الحكاية كلها مجرد شائعات تهدف إلى تثبيط الهمم ونشر القلق فى النفوس، ولكن عندما شرحت له حقيقة ما سمعت شعر بأن الأمر جد ولا هزل فيه فأبلغ الأمر إلى طلعت إسماعيل، وعبد السلام لملوم، وعبد الفتاح طلعت، سكرتيرى التحرير والزميل نبيل الطاروطى، المشرف الفنى، والذين كانوا متواجدين فى المطبعة لتنفيذ العدد، وتعمد أن يخفى الأمر عن بقية الزملاء وترك محمود بكرى، الأهرام متجها إلى مقر الصحيفة، وهناك عند شارع رمسيس لحق به طلعت إسماعيل ليؤكد له أن الخبر وصل صحيفة الأهرام وأن الأمر قد تأكد.
وبدأ الزملاء يتدفقون على مقر الصحيفة، فقد سرى الخبر كالنار فى الهشيم وبدأنا نلملم أوراقنا خوفًا من محاولة لاقتحام المقر من قبل هذه العناصر المسنودة من الدولة.
8- جيوش الباطل
فى السادسة من مساء السبت، توجهت أنا وشقيقى محمود إلى مكتب الأستاذ محمود المليجى، حيث عقد اجتماع المجلس القيادى للحزب، وكان قد سبقنا إلى هناك الأستاذ على الدين صالح، ومحمود المليجى، ومحمد المليجى، ومحمد بيومى، وعباس المصرى، ويوسف الحواتكى، ورضا الشجيع ود.عبد العزيز صالح، والمستشار عبد المعز خليل، واللواء حسن خيرالله، ومصطفى فوده، وعصام مدنى، وعددا آخر من أعضاء المجلس، حيث ناقشنا تطورات الموقف والاحتمالات الواردة فى ضوء التطورات التى شهدها الحزب، وفى نهاية الاجتماع تم الاتفاق على اللجوء إلى القضاء ومواجهة الموقف بكل شجاعة عبر التحرك باتجاه أحزاب المعارضة وعقد المؤتمرات الحزبية والجماهيرية لفضح المؤامرة.
وبعد انتهاء الاجتماع كانت صحيفة الجمهورية قد صدرت، وفى صدر صفحتها الأولى تأكيد للنبأ، ثم سرعان ما صدرت بقية الصحف الأخرى لتؤكد أيضًا قرار لجنة الأحزاب.
توجهنا أنا وشقيقي محمود بكرى، إلى مقر الصحيفة، حيث وجدنا الصحفيين متجمهرين ويرفضون الذهاب إلى منازلهم، كان الحزن يسيطر على الوجوه وكان الألم يعتصر النفوس، ولم يكن أحد فينا مستعدًا أن يصدق أن نجم الصحيفة قد بدأ فى الأفول وأن صوت الشرفاء قد لا يرى النور مرة أخرى، تحجرت الدموع فى العيون، فقد كانت الصحيفة هى كل شىء بالنسبة لنا، وكان معنى غياب على الدين صالح، أن كل شىء قد انتهى، ولهذا كان القرار من الزملاء أن أحدًا منهم لن يعمل مع (ع.ر) تحت أى سبب ومهما كان الأمر، وأن القيادة الوحيدة التي نحن فقط على الاستعداد للعمل من خلالها هي فقط قيادة مصطفى بكرى ولا أحد غيره.
مضينا إلى المنزل بعد أن صمم أحد العاملين على أن يبقى فى المقر يحرسه خوفًا من محاولة الاقتحام وأغلق على نفسه الباب و وعدته بالاطمئنان عليه هاتفيًا بين الحين والآخر وطلبت من كافة الزملاء أن يذهبوا إلى منازلهم ويتركوا شأن المقر له بعد أن صمموا جميعًا على المبيت داخل المقر بينما كانت الزميلة عبير أبو رية قد جمعت كل الأوراق الهامة.
كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة والنصف مساء، صعدت إلى السيارة أنا وشقيقى متجهين إلى منزلنا فى المعادي، ولا أدرى كم من الوقت استغرقت السيارة فى الطريق إلى هناك، كل ما اتذكره أن جدارًا من الصمت ظل مسيطرًا علينا طيلة المسافة صعدت إلى منزلي و كان القلق سيطر على زوجتي وعندما بادرتني بالسؤال عن الأخبار، قدمت إليها صحف الغد وقلت لها جملة واحدة: انتهى كل شيء وانتصر الباطل ولو بشكل مؤقت أصيبت زوجتى بصدمة كبيرة، فقد كانت تتابع الأزمة أولًا بأول.
قضيت الليلة ولكن دون أن تتذوق عيناى طعم النوم، لم ينقطع الهاتف حتى وقت متأخر، كنت أعيد الحكاية للمرة الألف وأشرح للناس من هو (ع.ر) وما هى أبعاد المؤامرة التي حاكها سمير رجب وما هى توقعاتي لما يمكن أن يحدث.
وفى الثانية صباحًا اتجهت إلى فراشي، فراح شريط الذكريات يزاحمنى ويخطف النوم من عينى، وكانت الصورة الوحيدة التي لم تغب عن تفكيرى هى صورة مصر الفتاة، العروس التي كنا نزفها إلى القراء صباح كل إثنين فكانت السعادة وأيما سعادة، والآن وبعد أن هدأ كل شيء، حاولت النوم لكنى لم أستطع، قلت فلأصرف التفكير بعيدًا عن مصر الفتاة لكن صورة العروس ظلت تطاردني بشدة، وهكذا لم يكن أمامى إلا أن أهرع إلى البلكونة، أتأمل القاهرة فقد كان كل شيء هادئًا إلا من نقيق الضفادع الذى كنت أسمعه بشدة من الحقول المجاورة للمنطقة.
وكانت القاهرة بأضوائها التي بدأت تخبو كأنها من المدن الإغريقية القديمة قد بدأت تغط فى نوم عميق، بينما قلعة محمد على لا تزال شامخة فوق ظهر تبه باتجاه جبل المقطم. فجأة علا صوت الآذان يؤذن لصلاة الفجر، كان صوت المؤذن ملائكيًا شق جوف الليل الساكن.. ومع صوت الآذان رفعت يداى إلى السماء وقلت (يارب)، وبعد قليل وجدتنى أؤدى صلاة الفجر وأتوجه بالدعاء إليه سبحانه وتعالى كى ينتقم من المتآمرين، ويخلص البلاد من بين أيديهم، كنت أشعر أن الله سيقف معنا وأن المؤامرة لن تمر وإن استمرت لبعض الوقت، وكنت على يقين أننا حتمًا سوف نهزم جيوش الباطل مهما كان عددها وعدتها، وهكذا أديت الصلاة و وجدتنى قد استغرقت فى النوم.
9- خطاب النهاية من الأعلى للصحافة
صحوت مبكرًا صباح الأحد 24/ 5 / 1992 فاليوم موعد صدور الصحيفة مساءً، كان الأمل لا يزال يراودنى فى إصدار العدد الأخير من الصحيفة، وتوقعت أن مسألة تسليم القرار وإبلاغه إلى الجهات المعنية يمكن أن تستغرق يومين على الأقل، ودخلت وزملائي فى سباق مع الزمن لإصدار الصحيفة ظهر اليوم، حيث كانت المانشيتات تحمل عناوين «سبتمبر جديد على الأبواب.. انتكاسة خطيرة للديمقراطية.. القرار باطل والحزب يلجأ إلى القضاء»، وعندما استفسرت من مؤسسة الأهرام صباح هذا اليوم عما إذا كان قد وصلهم خطاب من المجلس الأعلى للصحافة لوقف طباعة الصحيفة، كانت الإجابة بالنفى، فبدأنا فى بذل كل الجهود من أجل إنهاء الإجراءات الخاصة بالطباعة فى أقرب وقت ممكن، لكن فجأة أبلغتنا مؤسسة الأهرام أن (ع.ر) سلم إلى الأهرام خطابًا من المجلس الأعلى للصحافة يفيد بأنه هو رئيس مجلس الإدارة وأن رئيس التحرير شخص يدعى (ش.ا) وأن قرارًا صدر بفصل مصطفى بكرى كرئيس للتحرير بعد أن سبق وتم فصل على الدين صالح من منصبه كرئيس للحزب.
أغلقنا ملف الصحيفة وتحفظ الأهرام على الماكيتات بناء على طلب (ع.ر)، وفى مكتب الصحيفة كان هناك حشد كبير من الصحفيين والقراء، الكل غير مصدق بعد أن قرأوا الأخبار فى صحف الصباح، رنين الهاتف لا يتوقف وتحدث معى شباب ورجال، وطفل صغير قال لى ماما بتقول لك لا تيأس فإن الله معكم، كانت المشاعر جياشة، وكانت الكلمات تخرج من أفواه الناس صادقة، وكان المتحدثون من كافة فئات الشعب وأغلبهم من فقراء هذا الشعب، وهناك فى مقر الحزب بالدقى كانت الوفود تتدفق لتلتقى بنا وتشد عل أيدينا، وكان الأستاذ على صالح، أكثرنا تفاؤلًا بالعودة وحكم القضاء، وراح يشرح لى كيف خرقت لجنة الأحزاب قانونها وتدخلت بشكل غير شرعي مخالف للأعراف والقوانين.
جاء ذلك، في الحلقات التي ينشرها «الجمهور» يوم الجمعة، من كل أسبوع ويروي خلالها الكاتب والبرلماني مصطفى بكري، شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوي ومرسي والسيسي.
اقرأ أيضاًشهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: تجربة مصر الفتاة والمعركة مع سمير رجب
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: صعيدي في مونت كارلو
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: قصتي مع خالد عبد الناصر وتنظيم الثورة
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: صحافة الشيخ أحمد الصباحي
وفي نهاية مقالتنا إذا كان لديك أي اقتراحات أو ملاحظات حول الخبر، فلا تتردد في مرسلتنا، فنحن نقدر تعليقاتكم ونسعى جاهدين لتلبية احتياجاتكم وتطوير الموقع بما يتناسب مع تطلعاتكم ونشكرًكم علي زيارتكم لنا، ونتمنى لكم قضاء وقت ممتع ومفيد معنا.