شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: من الأحرار اليومية إلى سجن الجمالية!!
البوكس نيوز – نتحدث اليوم حول شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: من الأحرار اليومية إلى سجن الجمالية!! والذي يثير الكثير من الاهتمام والجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكما سنتناول بالتفصيل حول شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: من الأحرار اليومية إلى سجن الجمالية!!، وتعد هذا المقالة جزءًا من سلسلة المقالات التي ينشرها البوكس نيوز بشكل عام.
هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشتُ فصولَها، انتصاراتهِا وانكساراتِها، حُلوَها ومُرَّها، اقتربتُ من صناع هذه الأحداث أحيانًا، وكنتُ ضحيةً لعنفوانهم في أحيان أخرى، معاركُ عديدة دخلتها، بعضُها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي وقناعاتي.
أروي هذه الشهادات، بصدق وموضوعية، بعضُ شهودها أحياء، والبعضُ رحل إلى الدار الآخرة، لكنَّ التاريخ ووقائعه لا تُنسى، ولا يمكنُ القفزُ عليها، وتزويرُ أحداثها.
1- صدمة تجربة الحزب الناصري
بعد الصدمة التى تلقيتها فى تجربة الحزب الناصري وجريدة «العربي» الناطقة باسم الحزب، بدأت فى مراجعة الكثير من المواقف، أدركت أن هناك من يريد أن يختصر “الناصرية” فى شخصه ومصالحه.
سقطت أمامي رموز كثيرة، وأدركت أن لغة الدهاء والخبث باتت هي عنوان هذه الفترة، لكنني قطعًا لم استسلم للأمر، ولم أيأس أو أحبط، بل أخذت من هذه التجربة دروسًا وعظات وعبر.
ولأنني لا أعرف لليأس طريقًا، فقد قبلت العرض الذى تقدم به إلىّ الأستاذ مصطفى كامل مراد رئيس حزب الأحرار الاشتراكيين لترأس صحيفة الأحرار الصادرة عن الحزب، وتحويلها إلى صحيفة يومية.
كنت قد تلقيت هذا العرض فى نهاية شهر مارس من العام 1994، تمهلت فى الأمر، وتشاورت مع أخى محمود، وبعض الزملاء الذين رافقونى فى العمل بصحف مصر اليوم ومصر الفتاة، قلت للأستاذ مصطفى كامل مراد: لن أستطيع أن أعطيك الموافقة النهائية إلا بعد الرجوع للأستاذ محمد حسنين هيكل، الذى كانت تربطنى به علاقة منذ عام 1984، تساءل مصطفى مراد: ولماذا هيكل.. قلت له: لن أستطيع أن أقبل بالعرض إلا بعد التشاور معه.. قال لى: وهل سأحضر معك، قلت له: من المؤكد أن الأستاذ سيرحب بحضورك، وبالفعل تواصلت مع الأستاذ هيكل وعرضت عليه الأمر، فحدد لى موعدًا على الفور.
مضينا فى وقت مبكر من يوم الثلاثين من مارس 1994، كان الأستاذ يجلس إلى مكتبه المطل على نهر النيل فى الجيزة، وتحديدًا بجوار فندق شيراتون القاهرة، وبعد أن رحب بنا الأستاذ هيكل، راح الأستاذ مصطفى كامل مراد، يتحدث عن تاريخه وأنه كان ضابط مدفعية وانضم إلى الضباط الأحرار، وظل يحكى عن تاريخ حياته، وعن رغبته فى تحويل صحيفة الأحرار من أسبوعية إلى يومية، هنا سأله الأستاذ هيكل: وهل لديكم الإمكانيات التى تساعدكم على تحقيق هذه الرغبة، فقال مصطفى مراد: لدينا عدد لا بأس به من تأشيرات الحج المخصصة لنا، سنبيعها ونقدم ثمنها حوالى (150 ألف جنية) إلى مطابع الأهرام، أبدى هيكل دهشته وقال: هذا المبلغ لن يكفيك شهرًا كثمن لطباعة الصحيفة وفقط.
فجأة تغير وجه مصطفى مراد، أدركت على الفور أن القلق بدأ يساوره، قلت للأستاذ هيكل: أنا قادر على تشكيل فريق إعلامي قوى سوف يساعدني فى إيجاد دخل معقول للصحيفة.
قال الأستاذ هيكل: ولكنني أتخوف من التوقف.
قلت: لا تقلق، الصحيفة ستنطلق بعد 15يومًا من الآن ولن تتوقف.
أبدى الأستاذ دهشته وقال: بتقول إيه، 15يوما هل هذا معقول.
قلت له: أنا قادر بإذن الله على تحويل الأسبوعي إلى إصدار يومي فى هذه المدة.
قال الأستاذ: أنا شخصيًا لا أستطيع، المسألة تحتاج إلى إعداد وإصدارات تجريبية وتنظيم محكم، وهذا يحتاج إلى فترة من 3-6 شهور على الأقل.
قلت: أنا وزملائى قادرون على الإصدار اليومى فى 15يومًا من الأن.
قال مصطفى مراد: دى تبقى معجزة، وتبقى حققت حلمى.
قلت له: لا تقلق.. المهم أمام الأستاذ هيكل أنت تعرف إننى ناصري وأن مواقفي معروفة من إسرائيل والتطبيع واقتصاد الدولة وخلافه.
قال مصطفى مراد: أنا أقدر عبد الناصر وتجربته وحرر الصحيفة كما تريد، المهم سأكتب معك مقالًا يوميًا وتنشر أخبار الحزب.
قلت: طبعًا هذا حقك وهذه جريدة حزبك، نظرت إلى الأستاذ هيكل منتظرًا منه الكلمة الفصل وقلت: ما رأيك يا أستاذى.
قال هيكل: السفينة وهى ترسو على البر يحكمها قانون، وعندما تبحر يحكمها قانون آخر.
كنت أعرف ما يقصد، فبادرته بالقول: يعنى أتكل على الله؟
قال: على بركة الله.
شعرت بالسعادة بادية على وجه مصطفى كامل مراد، تحسس ذقنه وقال مودعًا الأستاذ هيكل: أصل أنا بحب المغامرة متنساش أنا ضابط مدفعية.
موعد مع إبراهيم نافع فى الأهرام
مضينا من مكتب الأستاذ هيكل، واتجهنا إلى مكتب الأستاذ إبراهيم نافع، رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، بعد أن حددنا معه موعدًا سابقًا.
وفى اللقاء مع رئيس مجلس إدارة الأهرام، قال الأستاذ مصطفى كامل مراد: مستعدون أن ندفع 150 ألف جنية قيمة تأشيرات الحج دفعة واحدة، ونطلب منك تسهيلات فى حال عدم قدرتنا على السداد، أبدى إبراهيم نافع استعداده ورحب بصدور الصحيفة فى الموعد الذى حددته وهو التاسع عشر من أبريل 1994، ثم تحدث مصطفى مراد، وقال هناك أيضًا خمسين ألف منحة من مجلس الشورى سنقدمها لكم.
ومضيت من مقر مؤسسة الأهرام إلى مقر جريدة الأحرار الأسبوعي فى 19شارع الجمهورية بجوار محكمة عابدين، بدأت فى ترتيب الأوضاع، التقيت ببعض الزملاء تدارسنا الموقف، وتساءلت عن اشتراك وكالة أنباء الشرق الأوسط، التي ستمدنا بالأخبار اليومية، إلا أنني فوجئت بعدم وجود اشتراك فى الوكالة، وإذا ما قررنا الاشتراك أمامنا عدة أسابيع حتى يتم الانتهاء من الإجراءات الفنية.
تساءلت عن المكاتب والكراسى، فقيل لنا أمامكم غرفتان فقط، واحدة لرئيس التحرير ومعه مدير التحرير وسكرتير التحرير والأخرى للمحررين.
كان الملاحظ منذ البداية، أن الترحيب من قبل الأستاذ وحيد غازي، رئيس تحرير الأحرار الأسبوعي مشوبًا بالحذر، كما أن بعض الزملاء القدامى تخوفوا على مواقعهم حال ضم الأسبوعي إلى اليومي، حاولت طمأنة الأستاذ وحيد غازي، والزملاء الآخرين، واصلنا العمل ليل نهار، نرسم الماكيتات نصنع التصميمات، نحدد الصفحات، نعد الصور والمواد الصحفية، وغير ذلك من الأمور التي تحتاج شهورًا طويلة، غير أن ماكينة العمل دارت، اتفقنا مع وكالة أنباء الشرق الأوسط، أن نرسل لها مندوبًا لاستلام تيكرز الأخبار مرتين أو ثلاثة فى اليوم وبدأنا نستعد للانطلاق.
صدور العدد الأول من جريدة الأحرار اليومية
وفى يوم التاسع عشر من أبريل 1994، صدر العدد الأول من جريدة الأحرار اليومية، وكان الحدث صادمًا للبعض، ومبعث ارتياح لدى قيادة الحزب ولدى جمهور عريض كان يتابع تجربتنا مع مصر اليوم ومصر الفتاة.
كنت قد شكلت فريق للإعلانات بعضه كان يعمل ولايزال يعمل فى صحيفة الأحرار الأسبوعي، ونجح هذا الفريق فى جلب إعلانات بلغت قيمتها فى الأشهر الخمسة الأولى على الإصدار نحو مليون ونصف المليون جنيه.
كان العدد الأول مفاجأة من حيث الماكيت ومضمون الأخبار والمقالات والموقف السياسى، دارت المطابع وتحولت أحلام شباب الصحفيين إلى واقع، وأصبحت الأحرار جريدة يومية وتحقق الحلم، جريدة تزعق فى كثير من الأحيان، لكنها أبدًا لم تتخل عن المهنية والموضوعية والمصداقية.
منذ البداية قررت أن أفتح صفحات الجريدة للجميع بلا استثناء المؤيدين والمعارضين، لم أبغ أن أصنع جريدة ناصرية صرفه، لكن الخط الناصري كان باديًا فى نهج الصحيفة، أو لنقل ثوابت التجربة الناصرية ومقاومة إسرائيل وأطماعها ورفض التطبيع وفضح المطبعين،
كانت الصحيفة تصنف على أنها صحيفة وطنية تفتح أبوابها للجميع وتطرح الرأي والرأي الآخر مهما كانت حدته، لقد حددت منذ البداية ثوابت الصحيفة والتي هي نفس ثوابتي، وكانت الأحرار تفتح صفحاتها للجميع بلا استثناء.
كان الملاحظ، ومنذ اللحظات الأولى لصدور الصحيفة، أن هناك حالة من الفتور تخيم على العلاقة بين الزملاء الصحفيين، ممن كانوا شركاء فى تجربة الأحرار الأسبوعي والذى ظل يصدر لفترة محدودة برئاسة وحيد غازى، وبين الزملاء الجدد، والذين زاملونا فى تجربة الأحرار اليومى.
لقد حاولنا قدر جهدنا التوفيق بين هؤلاء، وأولئك، وإزالة الفوارق، والتناقضات بين الجميع، سعيا وراء توحيد صف العاملين جميعهم فى الصحيفة، وقطعنا شوطا كبيرا على هذا الصعيد، إلا أنه ظلت هناك عقبات متعددة منها استمرار صدور صحيفة «الأحرار الأسبوعي» برئاسة وحيد غازي، حيث راحت تظهر تناقضاتها الواضحة مع الخط الناصري، الذى كان هو عنوان «الأحرار اليومي»، وراحت تفتعل المشاكل، وتحاول جرنا إلى معركة معها، وظنا أن ذلك قد يدفع مصطفى كامل مراد، إلى التخلي عن تجربة «الأحرار اليومي» كما كان يتوهم وحيد غازي، غير مدرك أن مصطفى مراد، والذى أعلن على مشهد من الجميع أنني الوحيد الذى نجح فى تحقيق حلم حياته بإصدار «الأحرار اليومي»، وأنه لن يتخلى عن التجربة الناجحة بسهولة، وقد صدقت توقعاتي بالفعل، حيث اتخذ مصطفى كامل مراد قرارا توليت بمقتضاه رئاسة تحرير الأحرار الأسبوعي لتصبح الأحرار صحيفة يومية واحدة.
قضية عبد الحارث مدني
لم تكد تمضى فترة وجيزة على صدور صحيفة “الأحرار اليومي” حتى تفجرت قضية المحامي “عبد الحارث مدني” وهو واحد ممن اتهمتهم أجهزة الأمن بالانضمام إلى الجماعة الإسلامية، والتي كانت تناصب نظام الحكم العداء الشديد، وتستخدم العنف فى المواجهة، حيث قبضت عليه الأجهزة الأمنية، ثم اقتادته إلى جهة غير معلومة، وتعرض للتعذيب الذى أدى إلى وفاته، وهو ما آثار ردة فعل واسعة، وراح الاهتمام به يتزايد ساعة بعد ساعة.. وهنا، وجدت الأحرار نفسها فى قلب المعركة، خاصة بعد أن تصاعدت عمليات الاحتجاج على وفاته داخل نقابة المحامين، وراحت العديد من المنظمات الخارجية تصدر بيانات احتجاجية على مصرعه تحت وطأة التعذيب، وكانت متابعة الأحرار “اليومي” دقيقة للحادث، بكل تفصيلاته، حيث تصدرت صور المحامي عبد الحارث مدنى، والتقارير والمعلومات المتعلقة بوفاته الصفحات الأولى، والرئيسية للصحيفة، والتى راحت جموع المحامين تتابع ما تنشره باهتمام شديد، وكذلك طوائف القراء من المواطنين، والذين راحت أيديهم تتلقف الأعداد الصادرة من الصحيفة حتى أصبحت “الأحرار” هي الصحيفة الوحيدة التي يضعها المحامون على أسوار نقابتهم، ويرفعونها فى لقاءاتهم، ومؤتمراتهم.
كان للتغطية الصحفية التي قمنا بها لقضية المحامي المتوفى عبد الحارث مدنى، وما اتسمت به من مصداقية وموضوعية، بمثابة حافز لهذا الانتشار السريع لها فى أكشاك التوزيع، ولدى المراقبين، والمهتمين بالشأن العام فى مصر، وأصبح الإقبال عليها لدى جمهور القراء أكثر مما كنا نتوقع فى تلك الفترة المبكرة من الصدور.. وبقدر ما حظيت الصحيفة بجماهيرية واسعة فى الشارع الصحفي والسياسي، بقدر ما أثارت حفيظة العديد من الأجهزة الأمنية، والتي راحت تتربص بالصحيفة ورئيس تحريرها، وهكذا ظلت الصحيفة فى الصدور بشكل منتظم، حيث ذاع صيتها وتبنت الكثير من القضايا الوطنية والجماهيرية.
كانت الأحرار تمضى بخطى ثابتة، مواقفها أثارت الكثير من العواصف الأمنية فى مواجهتها، إلا أن الأيام كانت تخبئ الكثير من المفاجآت.
اختطاف من النيابة
فى صباح يوم السبت، الموافق السادس عشر من سبتمبر 1994، تلقيت فجأة استدعاء من المستشار هشام سرايا، المحامي العام لنيابة أمن الدولة العليا.. للمثول أمام النيابة للتحقيق دون معرفة السبب.
كان شقيقي محمود، قد حدثني عن هواجسه منذ الصباح الباكر ليوم الأحد، الذى استدعيت فيه للتحقيق، خاصة وأن الفترة السابقة شهدت تضييقًا على الحريات واستدعاء بعض المعارضين للتحقيق، مضيت إلى مقر نيابة أمن الدولة العليا، كان أخي يتابع التحقيقات معي منذ الصباح، ويبدو أن القلق أصابه، بعد متابعته لسيرها، فترك عمله بصحيفة الشعب، حيث توجه إلى مقر جريدة الأحرار بشارع الجمهورية، بمنطقة عابدين، وهناك تقابل مع شقيقي أحمد، وانطلقا سويا إلى مقر نيابة أمن الدولة العليا، فى مصر الجديدة، حيث كنت أخضع لتحقيقات مكثفة منذ الصباح، وتمكن أخي محمود من الصعود إلى الطابق الثاني، والذى كانت تجرى فيه التحقيقات، رغم محاولات منعه من دخول المبنى، وقد حاول حضور جلسة التحقيق معي، إلا أن المستشار هاني برهام، والذى كان يجرى التحقيق معي رفض ذلك، ولكنه سمح لي فقط بالخروج للحديث معه للحظات خارج غرفة التحقيق، بحضور شقيقي الأصغر “أحمد”.
فى تلك اللحظات، أحطت شقيقاي علما بفحوى التحقيقات، وأكدت لهما أنني مرتاب منها، خاصة وأن التحقيقات تناولت كل ما نشر فى صحيفة الأحرار منذ بداية صدورها، إلا أنني أحطته علما ببعض النقاط، التي رأيت أنها تحوى تلفيقات مزيفة، بغرض عقابي على مواقفي السياسية، والمهنية، ومن بينها ما ذكره لي رئيس النيابة من أن لديه تسجيلات تثبت اتصالي بأنظمة عربية، واتصالات أخرى مع الجماعات الإسلامية المتطرفة، واتهمني بتقاضي مبالغ مالية من اليمن، مقابل تبنى مواقف الوحدويين، ضد الانفصاليين فى الحرب التي دارت رحاها فى اليمن، فى تلك الفترة.. وبين ثنايا سطور التحقيقات، علمت أن كل ما جرى معي، كانت وراءه مكالمة هاتفية من حاكم إحدى البلدان العربية للرئيس مبارك بسبب انتقادي الشديد لأوضاع حقوق الإنسان فى هذا البلد العربي.
على إثر ذلك، دخلت غرفة التحقيقات مجددا، ولم أخرج منها قبل الساعة السادسة والنصف، حيث التقيت من جديد بشقيقي محمود، والذى رحت أروى له ما حدث فى جلسة التحقيق المسائية، وسط حالة من الذهول والدهشة التي شعرت بها فى تلك اللحظات.
قلت له من الواضح أنهم أعدوا لي قضية لتشويهي بسبب مواقفي السياسية، دخلت لاستكمال التحقيق فى نحو السابعة والنصف مساء، خرجت إليهما مرة أخرى وطلبت منهما مغادرة مبنى النيابة، بناء على تعليمات رئيس النيابة، وهبطا بالفعل من الطابق الثان إلى أسفل مبنى النيابة، حيث كان يتجمع عدد من الزملاء، الذين توافدوا من مقر صحيفة «الأحرار» إلى مبنى النيابة، بعد أن استشعروا الخطر.
انتهى التحقيق معى فى حوالى الساعة الحادية عشرة من مساء الأحد، انتظرت خارج غرفة التحقيق صدور قرار بالإفراج عنى، إلا أن القرار تأخر كثيرا، فى هذا الوقت، كان عدد من ضباط الشرطة قد وصلوا إلى مبنى النيابة، ووجدتهم يطلبون منى اصطحابهم إلى مبنى قسم مصر الجديدة، انتظارا لصدور القرار، وعندما أقلتنا سيارة الشرطة، قامت عدة سيارات للزملاء والصحفيين بالسير خلفنا، وفجأة تم قطع الطريق على هذه السيارات أمام قسم شرطة مصر الجديدة، وراحت سيارات الشرطة تجرى بي بسرعة رهيبة، فصدمت جنديا، ولم تتوقف لمعرفة ما أصابه، وكادت السيارة التي تقلنا مع الضابط تقوم بحوادث مماثلة، لولا ستر الله.. المهم أن طريقة الخطف أكدت لي أن هناك اتجاها بعينه، لم أتبينه، وحمدت الله على كل شيء، وقلت لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. وهناك، عند منطقة الدراسة، طلب منى ضابط شرطة منديلا، فسألته: لماذا؟.. فقال: نحن مضطرون إلى تغمية عينيك.. بحثوا عن منديل قماش، فلم يجدوا، فاضطر الضابط إلى أن يعصب عيناى بفوطة السيارة القذرة.. ظلت السيارة تدور بنا.. وفجأة توقفت.. وأمسك الضابط بيدى، ليقودنى إلى المكان المحدد، وداخل هذا المكان المجهول، سمعت أصوات صرخات، فتأكدت أننى فى واحدة من ساحات التعذيب، وهبطوا بى إلى أسفل درجات السلم، وفجأة، فتحوا باب الزنزانة، ودفعونى بداخلها وكانت أرضية المكان الذى قادوننى إليه معصوب العينيين، غارقة فى المياه القذرة، ثم بعد قليل، أزالوا العصابة عن عينى، وأسرعوا بإغلاق الزنزانة.
كان الجو كئيبا، والزنزانة بالغة القذارة، ومساحتها ضيقة للغاية، إذ لا تتعدى مساحتها 3 أمتار فى 3 أمتار، وبداخلها دورة مياه قذرة.. وكان بداخلها أربعة متهمين فى قضايا سرقة بالإكراه، والاتجار فى المخدرات، جلست إلى جوارهم، ولا أريد أن أحكى عن مشاعري وإحساسي بالإهانة، فى هذا الوقت عرفت أن التعليمات قد صدرت إلى المتهمين الأربعة، بعدم التحدث معي، أو كشف مكان محبسي.. بل وكانت التوجيهات الصارمة لهم، تخويفي، وبث الرعب فى قلبي، لكن دون الحاق الأذى بي.. المهم أنني قضيت ليلتي على البلاط، وسط المتهمين الأربعة – أحمد وفرخة وحسين وغالب -.. تعارفنا جميعا بعد أن اضطروا للحديث معي، وحكى لي أحدهم وكان من أبناء الصعيد أن ضابط المباحث جاء بهم من الزنزانة الرئيسية وأفهمهم إنني إرهابي وطلب منهم تخويفي وإثارة الذعر فى نفسى وعدم إبلاغهم بمكاني قضيت الليلة بلا نوم وفى الصباح، كان على أن أخرج إلى طابور الصباح لمدة خمسة دقائق، فرفضت جلوس القرفصاء، كما كانوا يفعلون، ويكدرون المتهمين، ويرغمونهم على ذلك.. وراح الضابط يسألني: من أنت؟.. خاصة وأن اسمى غير موجود فى كشف المقبوض عليهم.. مضى وقت محدود، وبعد قليل أدخلونى إلى الزنزانة من جديد، وكان أشد ماضايقنى أنه لم تكن معى ملابس.. وعند الساعة الحادية عشرة والنصف، تم إخراجى من الزنزانة، وكان مأمور القسم لطيفا معى.. حيث عرفت فى هذا الوقت أننى فى قسم شرطة الجمالية.. رفضت دفع الكفالة، ولكننى عرفت أن حزب الأحرار سبق نقابة الصحفيين، وسددها.. عبر رجب حميدة، الأمين العام، بعدها تم اصطحابى من جديد إلى مبنى نيابة أمن الدولة العليا، ومن هناك تم الافراج عنى حوالى الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الاثنين 18 سبتمبر 1994″.
عند نحو الساعة الثالثة من بعد ظهر نفس اليوم، كانت سيارة قد نقلتني من محبسي إلى مقر جريدة الأحرار بشارع الجمهورية، وما أن هبطت من السيارة، حتى انطلقت بسرعة لأصعد السلم المؤدى إلى مقر الصحيفة، ما أن شاهدني الزملاء حتى راح الجميع يبكى، ويهلل، وانطلقت الزغاريد «وألقى الزميل عبد السلام لملوم بنفسه فى حضني، وراح يبكى بحرقة، وراحت الهتافات تدوى احتفاء بالإفراج عنى”، وما أن فرغت من السلام على الزملاء، حتى صعدت إلى مكتب الأستاذ مصطفى كامل مراد، بالطابق الأعلى، ورحت أروى للجميع تفاصيل ما حدث.
لائحة الاتهامات
لقد أدركت من واقع التحقيقات التي جرت معي أن مباحث أمن الدولة راحت توظف معلومات مغلوطة، وكاذبة، للإيقاع بي عقابا على مواقفي المناهضة للفساد والاستبداد فى البلاد.. غير أن كل ما فعلوه بحقي، لم يصمد أمام الأقوال والحقائق الجازمة، التي أعلنتها فى التحقيقات، وأسقطت بها كل ذرائعهم.. لقد تضمنت التحقيقات التي أجراها معي المستشار هاني برهام، رئيس النيابة، العديد من الاتهامات أبرزها:
-1 نشر أخبار ومقالات من شأنها إثارة الرأي العام.
-2 نشر أخبار ومقالات من شأنها الإضرار بالمصالح العليا للبلاد.
-3 التعامل مع بعض الأنظمة الحاكمة، رغم سوء العلاقات الدبلوماسية، بينها وبين مصر.
-4 مساندة التيار الدينى وجماعات العنف.
-5 المقالات والأخبار التى تنشرها الصحيفة، تدلل على توجه الصحيفة نحو ترسيخ وتعميق التيار الدينى، داخل ومصر وخارجها.
-6 إفساح المجال لنشر موضوعات تنطوى على تبرير مواقف وتجاوزات الجماعات المتطرفة.
-7 بث دعايات تشكك فى سلامة ومنطلقات السياسة الأمنية بمجابهة عناصر العنف والإرهاب.
-8 بث دعايات تهدف إلى تكدير السلم والأمن العام.
-9 انتهاج خط إثارى، يرتكز فى توجيهه على محاور تتجاوز بطبيعتها وأهدافها وأغراضها السياسية والقانونية، الممارسة الحزبية.
-10 انتهاج خط إثارى يضر بالمصلحة العليا للبلاد.
-11 نشر أخبار ومقالات وتحقيقات تؤكد توجه «الأحرار» نحو التشكيك فى جدوى الجهود المبذولة من جانب الدولة لمعالجة القضايا الجماهيرية.
-12 نشر أخبار ومقالات وتحقيقات، من شأنها تأليب الرأى العام ضد الحكومة.
-13 الدعوة لفك الحصار عن شعب العراق رغم انقطاع العلاقات الدبلوماسية معها.
-14 السعى لتنقية الأجواء مع السودان رغم تصادم ذلك مع السياسة العامة للدولة.
-15 نشر أخبار ومقالات وتحقيقات من شأنها أن توتر العلاقات مع دول صديقة.
-16 القيام بعمل عدائى ضد دول أجنبية من شأنه تعريض الدولة المصرية للخطر.
وغيرها من الاتهامات الظالمة.
كانت تلك هي الاتهامات الباطلة، والتي وردت فى مذكرة مباحث أمن الدولة، وهى اتهامات، لو كانت النيابة قد أخذت بها لكنت قضيت ما تبقى من حياتي خلف أسوار السجون، ولكن الله قيض لنا مستشار ورئيس نيابة عادل، هو المستشار هاني برهام، والذى قاوم كل الضغوط، واكتفى بالإفراج عنى بكفالة خمسة آلاف جنيه.
بعد الإفراج عنى، تم عقد مؤتمر صحفي عالمي، أكد فيه مصطفى كامل مراد، رئيس الحزب، تمسك جميع قيادات الحزب بمصطفى بكرى رئيسا لتحرير الجريدة، التي تعبر عن برامج الحزب، وسياساته فى مختلف القضايا، موضحا أنه رفض ضغوطا، تعرض لها، لإبعادي عن رئاسة تحرير الجريدة.
شارك فى المؤتمر الصحفي، العديد من القيادات السياسية، من بينهم إبراهيم شكري، رئيس حزب العمل، ومأمون الهضيبي، المتحدث الرسمي باسم جماعة الاخوان، ود.أحمد الصاوي، عضو المكتب السياسي للحزب الناصري، وأبو العلا ماضي، الأمين العام المساعد لنقابة المهندسين، ود.إبراهيم الدسوقي أباظة، السكرتير العام المساعد لحزب الوفد، والقطب الناصري فريد عبد الكريم، والدكتور حلمي مراد، نائب رئيس حزب العمل، وعبد الحميد بركات، أمين التنظيم بحزب العمل، والفنانة نادية لطفى، وغيرهم.
وقام ضياء الدين داود، الأمين العام للحزب الناصري بزيارة إلى حزب الأحرار وجريدته، التقى خلالها مصطفى كامل مراد ومعي، معلنا تضامن الحزب الناصري معنا، بينما اتصل الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل بي، مهنئا بالإفراج عنى، كما اتصل محمد فائق، وزير الإعلام الأسبق، وأعلن 1500 محام من المشاركين فى مؤتمر لجنة الشريعة الإسلامية عن تضامنهم معي، ورفضهم تجسس أجهزة الأمن على الصحفيين، والاعتداء على الحرية والديمقراطية.
لقد خلفت الاتهامات الكاذبةً جرحا غائرا فى نفوسنا، وأشعلت بداخلنا نارا لم تهدأ إلا حين أصدر النائب العام الأسبق رجاء العربي، قراره فى 8 أكتوبر 1998 بحفظ القضية التي اتهمت فيها، بعدما تبين كذب كل ما ورد فيها من اتهامات، وبعد أن ظلت سيفا مصلتا على رقبتي لمدة قاربت على الأربع سنوات.
اقرأ أيضاًشهادات مضروبة.. ضبط 5 أشخاص لإدارتهم كيانا تعليميا غير مرخص بالدقهلية
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: تجربة مصر الفتاة والمعركة مع سمير رجب
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: قصتي مع خالد عبد الناصر وتنظيم الثورة
وفي نهاية مقالتنا إذا كان لديك أي اقتراحات أو ملاحظات حول الخبر، فلا تتردد في مرسلتنا، فنحن نقدر تعليقاتكم ونسعى جاهدين لتلبية احتياجاتكم وتطوير الموقع بما يتناسب مع تطلعاتكم ونشكرًكم علي زيارتكم لنا، ونتمنى لكم قضاء وقت ممتع ومفيد معنا.