اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال.. هل يشعل آبي أحمد القرن الأفريقي؟ – البوكس نيوز
البوكس نيوز – اخبار – نتحدث اليوم حول اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال.. هل يشعل آبي أحمد القرن الأفريقي؟ والذي يثير الكثير من الاهتمام والجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكما سنتناول بالتفصيل حول اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال.. هل يشعل آبي أحمد القرن الأفريقي؟، وتعد هذا المقالة جزءًا من سلسلة المقالات التي ينشرها البوكس نيوز بشكل عام.
“ماذا يمكن أن يقال غير حمدا للخالق”.
كانت هذه أول تغريدة لرئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” على منصة “إكس” في أول أيام العام الجديد 2024، الذي أتت بداياته ساخنة على القرن الأفريقي المضطرب. وكانت التغريدة تعليقا على الاتفاق التاريخي الذي وقع في أديس أبابا بين آبي أحمد و”موسى بيحي عبدي” رئيس إقليم أرض الصومال (صوماليلاند)، الساعي للانفصال منذ عام 1991 عن جمهورية الصومال الفيدرالية. بموجب الاتفاق تحصل إثيوبيا على منفذ بحري قبالة سواحل الإقليم الانفصالي مساحته 20 كيلومترا مربعا لمدة 50 عاما، بحيث يُستخدَم منفذا تجاريا وقاعدة للبحرية الإثيوبية (التي تأسست عام 2019)، مع السماح لإثيوبيا باستخدام ميناء بربرة الواقع على ضفاف خليج عدن في مدخل مضيق باب المندب لأغراض التبادل التجاري. وقد صرَّح عبدي أن الاتفاق يشمل اعتراف إثيوبيا بالإقليم دولة مستقلة، وهو أول اعتراف رسمي به في العالم. وكشف “رضوان حسين” مستشار الأمن القومي لآبي أحمد أن الإقليم سيحصل في المقابل على حصة من شركة الخطوط الجوية الإثيوبية (1).
قبل ذلك بأسابيع، تحديدا في يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ألقى آبي أحمد خطابا مُطوَّلا أمام البرلمان تحدث فيه عن الضرورة الوجودية لوصول دولته الحبيسة إلى المياه الدافئة مرة أخرى، وذلك من خلال ميناء سيادي على ضفاف البحر الأحمر عبر إريتريا أو الصومال أو جيبوتي، ما ضاعف التوترات منذ ذلك الحين حول احتمالية نشوب صراع مسلح جديد بالقرن الأفريقي. وقد أثار الاتفاق موجة غضب واسعة في الصومال على كل المستويات، حيث خرجت مظاهرات في الشوارع مطالبة بإلغاء الاتفاق، وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في صفحات المؤثرين الصوماليين دعوات لمقاطعة الخطوط الجوية الإثيوبية اعتراضا على تصرفات أديس أبابا. وعلى مستوى النخب السياسية أعلن حليف آبي أحمد والرئيس الصومالي السابق “محمد عبد الله فرماجو” رفضه للاتفاق، وهو ما أكده أيضا “محمد حسين روبلي” رئيس الوزراء الصومالي السابق (2).
His Excellency President Muse Bihi Abdi and His Excellency Prime Minister Dr. Abiy Ahmed Ali signed a Memorandum of Understanding (MoU) in Addis Ababa today. (1/6) pic.twitter.com/0VzK0xi7Eq
— MFA Somaliland (@somalilandmfa) January 1, 2024
في صباح اليوم التالي، اجتمعت الحكومة الصومالية وأصدرت بيانا اعتبرت فيه أن الاتفاق بلا أساس قانوني، وأنه اعتداء سافر على سيادة جمهورية الصومال، كما أعلنت استدعاء سفيرها لدى أديس أبابا للتشاور، في حين دعت الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأوروبي وتكتل الإيغاد لاجتماع طارئ لبحث التدخل الإثيوبي. وقال رئيس الصومال “حسن شيخ محمود” إنه لا يمكن لأي شخص أن يتصرف في شبر واحد من أراضي الصومال، وكان أول الأطراف استجابة لدعوة مقديشو الاتحاد الأوروبي الذي أصدر بيانا يؤكد أهمية احترام وحدة الصومال، ثم جاء بيان جامعة الدول العربية بعد ساعات معلنا التضامن مع حكومة الصومال وإدانة المذكرة الموقعة بين إثيوبيا وأرض الصومال باعتبارها انتهاكا لسيادة الدولة الصومالية، ثم أتى بيان الإيغاد دبلوماسيا إلى حدٍّ بعيد، حيث عبَّر التكتل فيه عن القلق العميق، ودعا قادة البلديْن للحوار وضبط النفس، وهو ما اعتبرته مقديشو بيانا مخيبا للآمال ومنحازا للطرف الإثيوبي (3).
كانت مصر أول الأطراف الإقليمية تفاعلا، حيث أصدرت الخارجية المصرية بيانا حادا أكدت فيه ضرورة احترام سيادة الصومال، ثم صدر بعد ذلك بيان عن تركيا والسودان وكينيا، أكد فيه كلٌّ منهم ضرورة احترام وحدة أراضي الصومال وإدانته للاتفاق. وعلى المستوى الدولي، دعمت الولايات المتحدة موقف الصومال، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية “ماثيو ميلر”: “إننا ننضم إلى الشركاء الآخرين في التعبير عن قلقنا البالغ بشأن تصاعد التوتر في القرن الأفريقي، وأيضا نحث جميع أصحاب المصالح على الدخول في حوار دبلوماسي”. وقد تأخر بيان الاتحاد الأفريقي الذي صدر بعد 72 ساعة من الاتفاق، ورغم ما جاء فيه من صيغة دبلوماسية دعت لضبط النفس والهدوء والتحاور، فإنه أكد ضرورة احترام وحدة وسيادة أراضي الصومال (4).
تاريخ أرض الصومال
يقع إقليم أرض الصومال (المعروف بصوماليلاند) وعاصمته “هرجيسا” في منطقة القرن الأفريقي شمال غرب جمهورية الصومال، ويُشكِّل 27% من مساحتها. ويَحد الإقليم من الشمال خليج عدن، ومن الجنوب إثيوبيا، ومن الشرق إقليم بونتلاند بجمهورية الصومال، ومن الغرب جيبوتي. ويبلغ طول خط ساحل الإقليم 850 كيلومترا، وهو أكثر من ربع طول الساحل الصومالي الأطول في القارة الأفريقية. ويُقدَّر عدد سكان الإقليم بنحو 4 ملايين نسمة، وهم 23% من التعداد السكاني الصومالي الذي تخطَّى 18 مليون نسمة.
إبان حقبة الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر، قسَّمت القوى الاستعمارية الصومال إلى 5 أقاليم: الصومال البريطاني (إقليم أرض الصومال) أو (ِشمال الصومال)، والصومال الإيطالي (جنوب الصومال)، والصومال الفرنسي (جيبوتي)، والصومال الغربي (إقليم أوغادين)، ثم المناطق الشمالية الشرقية من كينيا. وبعد كفاح طويل من المقاومة الصومالية ضد الاستعمار، أُعلِن استقلال الإقليمين الشمالي والجنوبي عام 1960 وتوحَّدا باسم جمهورية الصومال، مع آمال بإعادة توحيد الصومال الكبير بأقاليمه الخمسة، التي ترمز إليها النجمة الخماسية التي تتوسط علم البلاد.
عرف الصومال الحكم المدني الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة حتى عام 1969، ومع ذلك، بدأ يتسلل شعور بالإحباط إلى الشماليين بسبب تمركز الإدارة والحكم في العاصمة الموحدة مقديشو بعيدا عن هرجيسا عاصمة الشمال، وبسبب ذوبان النخب السياسية الشمالية وغيابها عن صدارة المشهد (5) وهو ما تفاقم إثر الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء “محمد سياد بِرّي” بعد اغتيال الرئيس المنتخب “عبد الرشيد علي شرماكي” على يد أحد حراسه. أسس بِرّي حُكما شموليا وقام باعتقال السياسيين، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء “محمد إبراهيم عقال”. وقد تنامت مظاهر الاحتجاج على الحكم العسكري حتى وصلت إلى المعارضة المسلحة، فسقط نظام بِرّي عام 1991، وأعلن إقليم أرض الصومال في العام نفسه انفصاله من جانب واحد واستقلاله عن دولة الصومال الموحدة، وتولى رئاسته “محمد إبراهيم عقال” نفسه، ودخلت البلدان بعد ذلك في حرب أهلية استمرت 10 سنوات (6).
انتشر أمراء الحرب في شتى أنحاء الصومال، وكان أبرزهم “محمد فرح عيديد” الذي كانت ميليشياته سببا مباشرا في سقوط نظام بِرّي، وفي خروج القوات الأميركية من الصومال عقب محاولتها الأولى للتدخل عام 1993. كما ظهرت تنظيمات المحاكم الإسلامية بديلا عن الدولة الغائبة، وكان لها وجود ودور مهم بعد ذلك في الحياة السياسية. ثم انتقل الصومال منذ بداية القرن الحالي إلى مرحلة الحكومات الانتقالية، وعانى أثناء تلك الفترة من توترات اجتماعية وسياسية وأمنية، لكن منذ انتخاب الرئيس الحالي “حسن شيخ محمود” عام 2022، عرفت البلاد هدوءا نسبيا مع نجاحات على المستوى الأمني في مواجهات الدولة لحركة شباب المجاهدين المنتمية لتنظيم القاعدة، وعلى المستوى الاقتصادي أيضا حيث انخفضت قيمة ديون الصومال الخارجية بنحو 95% بعد إعفاء الصومال من سداد 4.5 مليارات دولار (7).
هرجيسا: هل تحصل تايوان أفريقيا على ما تريد؟
لم يكن تاريخ العلاقات الإثيوبية بإقليم أرض الصومال متميزا، فقد حاول آبي أحمد في أوائل عام 2022 انتزاع ميناء “زيلع”، وهو ميناء خامل، شمال أرض الصومال، وردَّت هرجيسا في منتصف العام نفسه بإلغاء اتفاق مع شركة موانئ دبي وإثيوبيا. لكن يبدو أن فوائد الاتفاق الجديد أغرت هرجيسا بتجاوز الخلافات القديمة، ويأتي على رأس هذه الفوائد اعتراف إثيوبيا بأرض الصومال دولة مستقلة، ليصبح أول اعتراف رسمي بها منذ إعلانها الانفصال منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، ولعل هذا الاعتراف يفتح الباب أمام دول أفريقية أخرى لتحذو حذو إثيوبيا المضيفة لمقر الاتحاد الأفريقي. بالإضافة إلى ذلك، هناك التعاون الأمني المنصوص عليه في الاتفاقية، ولربما تطمح هرجيسا في أن تكون إثيوبيا حليفا قويا ضد التهديدات الداخلية التي تواجه الإقليم الانفصالي، وبلا شك ستساهم الاتفاقية في زيادة شعبية عبدي، بوصفه أول مَن يحصل على اعتراف رسمي للإقليم (8).
لطالما أشير إلى أرض الصومال على أنها تايوان أفريقيا، حيث تميَّزت بكونها من أكثر “الدول غير المعترف بها” من حيث الفاعلية والتأثير، إذ تتمتع بقدرات اقتصادية وموقع جغرافي متميز، ومعدل فساد منخفض واستقرار نسبي مقارنة ببقية أقاليم الصومال، كما توجد مكاتب تمثيل لكلٍّ من بريطانيا والدنمارك وكينيا في العاصمة هرجيسا، علاوة على الزيارات المتكررة من الاتحاد الأوروبي. وقد عقدت أرض الصومال اتفاقات تجارية واقتصادية مع عدد من الدول، لكن دون أي اعتراف رسمي بها، ولكن في حال مضت هرجيسا قُدُما في التحالف مع آبي أحمد، فإن ما يتبع ذلك من توترات جيوسياسية في المنطقة قد يؤدي إلى إحجام حلفاء الإقليم عن المشاركة في اتفاقات ثنائية استثمارية واقتصادية (9).
بخلاف ذلك، يُعزز الاتفاق من الأزمة الداخلية التي يواجهها عبدي منذ أوائل العام الماضي، المتمثلة في دعوات الانفصال التي أعلنها عدد من العشائر المحلية، في مقدمتها عشيرة “دولبهنتي” بسبب ما سمّته سياسات التطهير والتهميش التي مارستها عشيرة “آل إسحاق” المسيطرة على مقاليد الحكم في إقليم أرض الصومال. فقد أعلنت العشائر أنها تتبع جمهورية الصومال، وأنها لم يستشرها أحد في الانفصال مطلع التسعينيات. وتسبَّبت الاشتباكات المسلحة بين الطرفين، خاصة في منطقة “لاسعانود” الإستراتيجية، في فرار ما يزيد على 150 ألف شخص حسب تقديرات الأمم المتحدة، علاوة على مقتل المئات، كما نوقشت القضية في مجلس الأمن في فبراير/شباط الماضي. هذا ويعرقل الاتفاق مباحثات السلام مع جمهورية الصومال، التي عُقِدَت في جيبوتي بصفتها رئيس الدورة الحالية لتجمُّع الإيغاد، وذلك قبل ثلاثة أيام من توقيع الاتفاق بين هرجيسا وأديس أبابا (10).
أديس أبابا: عقبات على الطريق للمياه الدافئة
على الطرف الآخر، يحقق الاتفاق هدفا رئيسا لطالما سعت له الإدارات الإثيوبية المتعاقبة منذ تحول إثيوبيا لدولة حبيسة بعد استقلال إريتريا عنها عام 1993، ثم حرمانها من الوصول إلى ميناءيْ عصب ومصوَّع نتيجة الحرب الإثيوبية الإريترية عام 1998، وهو الوصول لمنفذ بحري وتأمين قاعدة عسكرية للبحرية الإثيوبية على مدخل باب المندب والبحر الأحمر ومنهما إلى قناة السويس، وما يُمثِّله ذلك من أهمية إستراتيجية وجيوسياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية لأديس أبابا تُمكِّنها من تعزيز هدفها المنشود في أن تصبح أحد أقطاب القارة الأفريقية، وصاحبة النفوذ الأقوى في القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
بالإضافة إلى ذلك، يساهم الاتفاق بالطبع في تعزيز شعبية آبي أحمد الداخلية، وترسيخ هيمنته على مقاليد الحكم، خاصة في ظل النزاعات المسلحة مع المكونات الإثنية للمجتمع الإثيوبي التي كانت سِمة أساسية لحكمه، بدءا من الصراع مع قومية الأورومو بعد توليه السلطة عام 2018، مرورا بحرب التيغراي الدموية عام 2020، نهاية بالنزاع الحالي ضد ميليشيات فانو الأمهرية حليفه السابق في حرب التيغراي. وقد خرجت مظاهرات داعمة في أديس أبابا عشية الإعلان عن الاتفاق، ووصل الأمر إلى تعليق صور ولافتات في شوارع العاصمة تحمل صورة آبي أحمد وعبدي احتفاء بهما، وتُكرِّس الاتفاقية حالة الانقسام في الصومال، وهو هدف إستراتيجي لأديس أبابا، إذ إن الصومال الموحد يعني المطالبة بإقليم أوغادين (الخاضع لإثيوبيا) أو حرمان إثيوبيا من الوصول إلى المياه الدافئة، كما أن الصومال بموارده وموقعه الإستراتيجي سيكون منافسا قويا على زعامة القرن الأفريقي (11).
ترتبط المصالح الإثيوبية ارتباطا وثيقا بالصومال، وإذا ما طُبِّق هذا الاتفاق بالفعل، فقد تنتج عنه عدة تحديات. أولها إحياء النزاع التاريخي بين إثيوبيا والصومال على إقليم أوغادين الصومالي، حيث تعود جذور هذا الصراع إلى مؤتمر برلين عام 1884 عندما انسحبت القوات المصرية من الإقليم بعد أن خلفت القوات العثمانية في حمايته وإدارته، وذلك بسبب الضغط البريطاني والإفلاس المالي المصري آنذاك. وقد سيطرت بريطانيا على إقليم أوغادين بعدئذ ثم تنازلت عنه لإثيوبيا إرضاء للإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، الحليف القوي للغرب، الذي ساعد بريطانيا في القضاء على الثورة المهدية في السودان (12).
أحكمت إثيوبيا سيطرتها على الإقليم بعد تحالف سيلاسي مع الولايات المتحدة، حيث روَّج الأخير لنفسه بوصفه حائط صد ضد الشيوعية السوفيتية، بالإضافة إلى رغبة واشنطن في احتواء الدور المصري في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، ما تجلى بوضوح في حديث سيلاسي للسفير الأميركي في نوفمبر/تشرين الثاني 1956 حول الأنشطة المصرية التي قال إنها تؤجج روح الرفض لدى الصوماليين. وكانت إثيوبيا أكثر الدول الأفريقية تلقيا للمساعدات الأميركية في هذه الفترة، علاوة على التحالف الأمني والعسكري عبر قاعدة كانجيو الأميركية في مدينة أسمرة (عاصمة إريتريا حاليا). ويُعَدُّ إقليم أوغادين غنيا بالموارد الطبيعة من احتياطيات غاز طبيعي هي الأكبر في المنطقة، علاوة على النفط ومناجم الذهب، كما أن سيطرة أديس أبابا عليه تضمن تحكُّمها في نهري “جوبا” و”شبيلي”، استمرارا لسياسة السيطرة على موارد المياه العذبة في المنطقة (13).
بدأ الكفاح الصومالي ضد إثيوبيا من أجل استعادة الإقليم عن طريق حركات التحرر، مثل جبهة تحرير أوغادين، التي تطور الصراع معها إلى حرب شاملة بين إثيوبيا والصومال بين عاميْ 1963-1964، وهي مواجهة تكرَّرت بين البلدين في أواخر السبعينيات. ثم تدخلت إثيوبيا عسكريا في الصومال بحجة طرد متمردي الأورومو في التسعينيات، وعادت مجددا بصفتها وكيلا عن الولايات المتحدة لدعم الرئيس عبد الله يوسف أحمد في مواجهة اتحاد المحاكم الإسلامية عام 2006، ثم عبر بعثة حفظ السلام الأفريقية “أميصوم” عام 2014، حتى وصل عدد القوات الإثيوبية المنتشرة في الصومال إلى 12 ألف جندي (14).
يُمثِّل الاتفاق انتكاسة للنفوذ السياسي الإثيوبي في جمهورية الصومال، الذي كان في أوج ازدهاره في السنوات الست الماضية، حيث وصل إلى درجة أصبحت معها أديس أبابا المسؤول الأبرز عن ملف المصالحات بين الصومال ودول جواره، مثل الاتفاق الصومالي الإريتري عام 2018، والصومالي الكيني عام 2019. وقد يؤدي الاتفاق إلى فقدان التعاون والتنسيق الأمني مع مقديشو، وهو ملف مهم للأمن القومي الإثيوبي، حيث تمتد الحدود بين البلدين إلى 1640 كيلومترا، وهي الأطول بين إثيوبيا وباقي جيرانها.
ويُعَدُّ الصومال من أبرز الشركاء الاقتصاديين لإثيوبيا، حيث تتجاوز قيمة التبادل التجاري بين البلدين المليار دولار، بالإضافة إلى المشاركة الإثيوبية في عمليات التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي، خاصة في مناطق الحدود البحرية الصومالية الكينية، وهو أمر تبدت أهميته بعد توقيع حكومة أديس أبابا لعقود التنقيب عن النفط والغاز مع إحدى الشركات الصينية، وتبنّيها مخططا لإنشاء خط أنابيب لتصدير الغاز الطبيعي من إقليم أوغادين إلى موانئ التصدير عبر جيبوتي. وقد وقَّعت إثيوبيا 16 اتفاقية لتعزيز التعاون الاقتصادي مع الصومال في يونيو/حزيران 2018، كما اتُّفِقَ في العام نفسه على استئناف الرحلات الجوية بين إثيوبيا والصومال، بعد قطيعة استمرت 41 عاما، وذلك بتنظيم أربع رحلات أسبوعيا بين أديس أبابا ومقديشو (15).
علاوة على ذلك، سيكون الاتفاق دعما لإقليم انفصالي، ومن ثمَّ فإن إثيوبيا تقوِّض الأساس القانوني نفسه الذي تدافع به عن وحدة أراضيها، كما أنه يهُز الصورة التي يحاول آبي أحمد ترويجها عن بلاده بوصفها القائد لمبادرات ترتيب الأوضاع بالقرن الأفريقي، لا سيَّما وهي الدولة المضيفة للاتحاد الأفريقي والملتزمة بقرارته فيما يتعلق باحترام الحدود السيادية للدول، وصاحبة النفوذ الأكبر داخل الإيغاد. ويُمثِّل الاتفاق خصما من الموقف الإثيوبي في ملف سد النهضة لصالح الموقف المصري والسوداني، حيث استطاعت أديس أبابا في السابق تحييد الصومال بأهميته الإستراتيجية، ونجحت في انتزاع تحفظ حكومة مقديشو على قرار جامعة الدول العربية الصادر في 4 مارس/آذار 2020، الذي أكد التضامن مع موقف مصر والسودان في ملف سد النهضة الإثيوبي، ورفض أي إجراءات أحادية إثيوبية، وهو موقف من المتوقع أن يتغير لصالح عودة الانحياز الصومالي لمصر والسودان (16).
مصالح متباينة في أرض الصومال
داخليا، تنشط في الصومال حركة شباب المجاهدين، التي تنتمي تنظيميا إلى القاعدة، وهي من أشرس الحركات المسلحة الفاعلة في القارة السمراء، ويرجع تأسيسها لعام 2004، وكانت تُعَدُّ الجناح العسكري لاتحاد المحاكم الإسلامية قبل أن تنفصل عنها بعد انخراط الأخيرة في العملية السياسية. ولحركة الشباب تاريخ دموي من الصراع والهجمات المسلحة ليس في الصومال فقط، ولكن في دول الجوار مثل جيبوتي وكينيا، ورغم النجاحات التي حققتها الحكومة الصومالية مؤخرا بمساعدة القيادة الأفريقية للقوات المسلحة الأميركية “أفريكوم” في مواجهتها، فقد أعلنت حركة شباب المجاهدين على لسان متحدثها الرسمي رفضها للاتفاقية الموقعة بين أديس أبابا وهرجيسا، بل واتهمت الحركة في بيانها الإدارة الحاكمة في مقديشو بالتواطؤ لتمرير هذا الاتفاق. ومن ثمَّ تتزايد المخاوف من أن يُمثِّل هذا التطور قُبلة حياة للحركة قد تستغله في عمليات التجنيد وإيجاد حاضنة شعبية لها، ولعل التهديد الذي تُمثِّله الحركة يفسر الموقف الأميركي المعارض للاتفاق (17).
على نطاق أوسع، ورغم أن الاتفاق للوهلة الأولى يستبعد جيبوتي وإريتريا من الدخول في مواجهة مباشرة مع آبي أحمد في سعيه لتأمين منفذ بحري دائم لإثيوبيا، فإنه يؤكد لدول القرن الأفريقي نِيَّات أديس أبابا التوسعية في المنطقة، كما يُفقِد الميزانية العامة في جيبوتي نحو 1.5 مليار دولار كانت تدفعهم إثيوبيا سنويا نظير استخدامها لميناء جيبوتي. وستُشكِّل القاعدة البحرية التي ستحصل عليها إثيوبيا إزعاجا شديدا للرئيس الإريتري “أسياس أفورقي”، خاصة بعد تدهور العلاقات بينه وبين آبي أحمد مؤخرا (18).
بالنسبة إلى مصر، فإن الصومال بما يُمثِّله من موقع إستراتيجي في منطقة القرن الأفريقي وحدوده الممتدة مع منابع نهر النيل يُمثِّل أهمية كبرى للأمن القومي المصري. وتحتفظ مصر بعلاقات تاريخية وثيقة مع الصومال يعود الفضل الأكبر فيها إلى جهود الدبلوماسي المصري “كمال الدين صلاح”، قنصل مصر في مقديشو ومندوب الأمم المتحدة، الذي دعم وحدة أراضي الصومال حتى اغتيل عام 1957، وأقيمت صلاة الجنازة عليه بمقر البرلمان الصومالي. وكانت القاهرة من أوائل العواصم التي اعترفت بجمهورية الصومال بعد الوحدة عام 1960، وكانت المرحلة الذهبية للتقارب المصري الصومالي في الستينيات في مواجهة التحالف الأميركي الإثيوبي، وبالأخص بعد تدشين المشروع الأميركي لاستصلاح الأراضي حول النيل الأزرق في إثيوبيا ردا على بناء مصر السد العالي في أسوان. وقد بلغت التحركات المصرية في المنطقة حدًّا دفع إمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي للتصريح بأن الصومال الكبير فكرة مصرية زُرِعَت في عقول الصوماليين لزعزعة الاستقرار الإثيوبي (19).
وقد شهدت العلاقات المصرية الصومالية في عهد الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو نوعا من الفتور لصالح التحالف مع آبي أحمد، لكن بعد تولي حسن شيخ محمود الحكم وزيارته للقاهرة، يمكن القول إن العلاقات استعادت حيويتها. ويبرهن على ذلك أن أول اتصال هاتفي معلن أجراه حسن شيخ محمود لبحث توابع الاتفاق مع الأطراف الخارجية كان مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وهو ما أعقبه بيان من الخارجية المصرية أكدت فيه ضرورة احترام سيادة الصومال على أراضيه وفقا للقانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي، محذرة من الإجراءات التي من شأنها أن تقوّض استقرار القرن الأفريقي. هذا ويُعَدُّ الرد المصري أشد رد خارجي داعم لجمهورية الصومال حتى الآن، وقد تتبعه تحركات على مستوى مؤسسات الاتحاد الأفريقي ودول المنطقة لتعزيز موقف جمهورية الصومال (20).
في المقابل، تتمتع الإمارات بنفوذ هو الأقوى في أرض الصومال عبر القاعدة العسكرية الإماراتية في مطار بربرة التي بُنيت عام 2017، ثم التعاون العسكري والتدريب الذي تتلقاه قوات الإقليم بإشراف القوات المسلحة الإماراتية منذ عام 2018، فضلا عن استثمارات شركة موانئ دبي في إدارة ميناء بربرة. ويرفض الصومال التحركات الإماراتية التي يرى أنها “تهدد وحدة وسلامة البلاد”، علاوة على قلقه بشأن التعاون الإماراتي الإثيوبي الوثيق الذي كانت آخر مظاهره مشاركة القوات الجوية الإماراتية في احتفالية تأسيس سلاح الجو الإثيوبي أواخر العام الماضي (21).
بالنسبة إلى تركيا، فهناك وجود فعَّال في جمهورية الصومال الفيدرالية يتمثَّل في قاعدة “تُركسوم” العسكرية المنشأة عام 2017، التي تُعَدُّ ثاني أكبر قاعدة عسكرية رسمية لتركيا في الخارج، فضلا عن مبادرات تنموية قدمتها أنقرة بلغت مليار دولار منذ عام 2011، حيث يُعَدُّ الصومال قاعدة أساسية تنطلق منها تركيا لممارسة دورها الإقليمي في القرن الأفريقي. ورغم التقارب التركي الإثيوبي في المجال العسكري مؤخرا، تنظر تركيا إلى الصومال ووحدته بوصفه أولوية لمصالحها، لذلك من غير المرجح أن ترحب أنقرة بالاتفاق بين هرجيسا وأديس أبابا (22).
سيناريوهات الاتفاق
في ضوء ذلك، هناك ثلاثة سيناريوهات لما يُمكن أن يؤول إليه هذا الاتفاق، أولها التصعيد الدبلوماسي من الصومال انطلاقا من حقه في ممارسة أعمال السيادة على أراضيه، ووفقا لحدوده المعترف بها دوليا، يعززه دعم المنظمات والأطراف الدولية والإقليمية ودول الجوار الساعية لمنع تصاعد التوترات الجيوسياسية في منطقة القرن الأفريقي، بالإضافة إلى الأطراف التي تعتبر الوجود الإثيوبي العسكري على مدخل مضيق باب المندب تهديدا لها. أما السيناريو الثاني فهو نجاح آبي أحمد في تمرير الاتفاق مع إكمال الاعتراف الرسمي بإقليم أرض الصومال، وتفاقم الأزمة الجديدة في المنطقة بشكل تصبح فيه كل الاحتمالات مفتوحة بما فيها العمل العسكري.
وأخيرا، هناك سيناريو ثالث هو عدم إكمال الاتفاق بسبب عدم التزام أديس أبابا بما يتعلق بالاعتراف الرسمي للإقليم، حيث إن إثيوبيا لم تصدر تأكيدا رسميا حتى الآن حول هذا الجزء من الاتفاق، واكتفت بالإشارة إلى سعيها إجراء تقييم متعمق حول المسألة. وقد صدرت تصريحات مؤخرا من بعض المسؤولين في أديس أبابا وصفت الاتفاق بأنه مجرد مذكرة تمهيدية فقط، وأن الاتفاق النهائي لم يُوقَّع بعد، فيما بدا أنه رضوخ للضغط الإقليمي والدولي ضد المُضي في اتفاق مخالف للقانون الدولي والحدود الصومالية المُعترف بها. يبدو إذن أن العام الجديد سيكون حافلا بالمتغيرات والأحداث في منطقة القرن الأفريقي، التي قد تؤدي إلى المزيد من التوترات الجيوسياسية والأمنية التي سيكون لها أثر على المنطقة بكاملها.
————————————————————–
المصادر
- قراءة أولية في اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال.
- لأجل المياه الدافئة.. هل يُشعل آبي أحمد حربًا في البحر الأحمر؟
- الصومال يلغي اتفاق إثيوبيا و”أرض الصومال” بشأن ميناء بربرة.
- ما خيارات مقديشو لتقويض اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال؟
- أرض الصومال.
- قصة تحول الصومال من قوة أفريقية كبيرة إلى “دولة فاشلة”.
- صومالي لاند: بين الانفصال والعودة للوحدة.
- قراءة أولية في اتفاق إثيوبيا وأرض الصومال.
- Somaliland and Taiwan: Two territories with few friends but each other.
- اشتباكات “لاسعانود”: أبعاد تصاعد التوترات الأمنية في إقليم “صوماليلاند”.
- لأجل المياه الدافئة.
- أوغادين.
- The United States and Egypt: Confrontation and Accommodation in Northeast Africa, 1956-60.
- أنباء عن اتخاذ أميصوم قاعدة جديدة في عاصمة الإدارة الصومالية في إثيوبيا.
- Ethiopia, Somalia Agree to Strengthen ‘Brotherly’ Relations.
- انتفاضة عربية لدعم مصر والسودان في قضية “سد النهضة”.
- حركة شباب المجاهدين الصومالية.
- لأجل المياه الدافئة.
- كمال الدين صلاح.. ماذا تعرف عن شهيد الدبلوماسية المصرية ورائد الإصلاح السياسي في الصومال؟
- الرئيس عبد الفتاح السيسي يتلقى اتصالا هاتفيا من الرئيس الصومالي.
- أرض الصومال: لا يعترف بها أحد وتقيم بها الإمارات قاعدة عسكرية.
- التوجه التركي تجاه الصومال.
وفي نهاية مقالتنا إذا كان لديك أي اقتراحات أو ملاحظات حول الخبر، فلا تتردد في مرسلتنا، فنحن نقدر تعليقاتكم ونسعى جاهدين لتلبية احتياجاتكم وتطوير الموقع بما يتناسب مع تطلعاتكم ونشكرًكم علي زيارتكم لنا، ونتمنى لكم قضاء وقت ممتع ومفيد معنا.