النفس الزكية “المهدي الثائر” الذي هدد عرش العباسيين وأيده الإمامان مالك وأبو حنيفة.. القصة الكاملة لخاتمة ثورات السلف؟ | تراث – البوكس نيوز
البوكس نيوز – اخبار – نتحدث اليوم حول النفس الزكية “المهدي الثائر” الذي هدد عرش العباسيين وأيده الإمامان مالك وأبو حنيفة.. القصة الكاملة لخاتمة ثورات السلف؟ | تراث والذي يثير الكثير من الاهتمام والجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكما سنتناول بالتفصيل حول النفس الزكية “المهدي الثائر” الذي هدد عرش العباسيين وأيده الإمامان مالك وأبو حنيفة.. القصة الكاملة لخاتمة ثورات السلف؟ | تراث، وتعد هذا المقالة جزءًا من سلسلة المقالات التي ينشرها البوكس نيوز بشكل عام.
“أما بعد أيها الناس؛ إنما أخذ الله فرعون حين قال: «أنا ربكم الأعلى» وإن أحق الناس بالقيام بهذا الدين أبناء المهاجرين الأولين والأنصار المواسين. اللهم إنهم قد أحلّوا حرامك، وحرّموا حلالك، وآمنوا من أخفتَ، وأخافوا من آمنتَ، اللهم فأحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. أيها الناس إني والله ما خرجت من بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوة ولا شدة، ولكني اخترتكم لنفسي، والله ما جئت هذه وفي الأرض مصرٌ يُعبد الله فيه إلا وقد أخِذ لي فيه البيعة”؛ (تاريخ الطبري).
هكذا أعلن محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى الهاشمي الملقب “النفس الزكية” (ت 145هـ/763م) -من فوق منبر المسجد النبوي بالمدينة- بيانَه الثوري للإطاحة بحكم الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (ت 157هـ/775م)، بعد أن قرر الظهور العلني في شوارع المدينة النبوية حاملا مثالياته الثورية بين أهلها، وذلك في اليوم الأول من شهر رجب سنة 145هـ/763م.
كان لوقع خروجه المهيب فعل السحر في أهل المدينة ومن لحق بهم من القبائل العربية، وعندما وجدوه بين ظهرانيهم نادوْا عليه في شوارعها: “المهدي.. المهدي”! فقد كان -في عيون أنصاره- يمثل أملا كبيرا في التغيير، وإجابة ثورية للأرض القاحلة التي ملئت جورا فتعلقت به الجماهير؛ حسبما ترويه شهادات المؤرخين.
وبحسب ما يقوله المؤرخ أبو جعفر ابن طباطبا العلوي المعروف بابن الطقطقي (ت 709هـ/1309م) -في كتابه ‘الفخري في الآداب السلطانية‘- فإن أهل المدينة “كانوا شديدي الميل إلى النفس الزكية، وكانوا يعتقدون فيه الفضل والشرف والرئاسة”، ولذا كان لدعوته أثر في أرجاء كثيرة من الأمة حيث “بويع له في الآفاق”؛ كما يقول الإمام أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ/936م) في كتابه ‘مقالات الإسلاميين‘.
وقد استند خطاب “النفس الزكية” إلى مطالب الإصلاح التي جسّدها الإرث الثوري الممتد لآل البيت منذ ثورة الحسين بن عليّ (ت 61هـ/682م) على الأمويين سنة 60هـ/681م، ومطالبه العالية لإحياء القيم الشورية المندرسة، فاندفع ناقدا لسياسة الإكراه الجبري التي مارستها دولة بني أموية الآفلة وسلطة العباسيين الصاعدة، حيث نادى بتأسيس نظام خلافة قائم على الاختيار، وهي القيمة التي يجب أن تظلل أي شرعية سياسية تتسنّم سدة السلطة؛ فخلافة الأمة يجب ألا تُؤخذ قهرا وغلابا.
وبطبيعة الحال؛ فإنه عندما تصطدم هذه المثالية العالية المنزع والمشرع مع سلطة الواقع القاهر -لاسيما وهي في طورها الفتيّ الصاعد كما هو حال العباسيين عندما ثار النفس الزكية- فإن ذلك سيُسفر عن محنة مروعة، كما برهنت على ذلك النماذج الثورية السابقة وباتت هبّة النفس الزكية مثالا آخر عليه.
ففي السنوات الأولى من حكم المنصور؛ نُكب البيت العلوي -ممثلا في فرعه الحَسَني- ومعهم نخبة من أجلاء العلماء، ورموز من كبار بيوت الصحابة مهاجرين وأنصارا، من أمثال “وَلَد (= أولاد) علي وجعفر وعَقيل [أبناء أبي طالب]، وعمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) والزبير بن العوام (ت 36هـ/657م)، وسائر قريش وأولاد الأنصار”؛ وفقا لابن فضل الله العُمَري (ت 749هـ/1348م) في كتابه ‘مسالك الأبصار‘.
وهكذا نزلت بهؤلاء محنة كبرى -على أيدي أبناء عمومتهم من العباسيين- لا تقل ضراوة عما حاق بالبيت العلوي -وخاصة فرعه الحُسيني- مع بني أمية في ثورتيْ الإمامين الحسين وحفيده زيد بن علي زين العابدين الهاشمي (ت 122هـ/740م).
والواقع أن ثورة النفس الزكية كانت حدثا تاريخيا عصيا على الانطواء، فقد حركت جموعا من المعارضة السياسية في الجناح الشرقي من جغرافيا الخلافة في خراسان وما وراءها، وكذلك في منطقة الغرب الإسلامي، وحشدت تحت لوائها لفيفا من العلماء الثقات أمثال الإمامين العظيمين أبي حنيفة (ت 150هـ/768م) في العراق ومالك بن أنس (ت 179هـ/795م) في الحجاز، وأيدتها صفوة الطبقة الأولى من تيار المعتزلة، وعدد من التجمعات القبلية المعارضة للدولة العباسية الصاعدة.
ثم إن هذه الثورة ذات الأرضية السياسية الرحبة مثّلت امتدادا للإطار التوافقي الذي أقامه الإمام زيد، الذي اتسم برنامجه السياسي والفكري بأنه كان ذا صبغة توافقية بحيث التقت فيه الجماعات على نقطة سواء، وقد انتقل هذا الزخم التوافقي إلى ثورة النفس الزكية، بل إن مقدار التداخل بين الثورتين يجعل من المؤكد أن النفس الزكية ظل محكوم الرؤية بالسقف الفقهي والاجتهادي لابن عمه الإمام زيد حتى إنه تمثّل رأيَه في الخلافة والبيعة، ولعل كل ذلك كان من نتاجه أن أصبح البيت الحسني تاريخيا هو الحاضنة الكبرى للتيار الزيدي حتى اليوم.
أما الفرعُ الجعفري -نسبة إلى الإمام جعفر الصادق الهاشمي (ت 148هـ/766م)- فقد ترسّم النهجَ الذي صار ممثلا لخطّ الفكر السياسي أهل السنة، وهو المضي في الإمامة العلمية التي كانت غالبا تجافي السلطة السياسية، وتعتزل الثورة وما يسمى “الفتن”، وكان ذلك شكلا من أشكال الاحتجاج السلبي الذي انخرطت فيه جموع غفيرة من التابعين والسلف، بعد الخسائر المريرة التي منيت بها الثورات السياسية المسلحة التي انخرط فيها عدد من بقايا الصحابة وكبار علماء التابعين وأتباعهم، وذلك في الحقبة الممتدة ما بين 50-145هـ/672-763م.
وفي حُكم التاريخ تبدو حركة النفس الزكية ثورة من أجل إصلاح مسار الثورة العباسية، التي خرجت من رحم تحضيرات كبرى وصدامات عنيفة كان النفس الزكية نفسه أحد قادتها وشريكا في صنعها، بل إنه أعطيت له البيعة مبكرا من معظم البيت الهاشمي ليتولى قيادة التحول الكبير المرتقب بحيث يصبح الخليفة الأول في الدولة الجديدة، فهو والعباسيون وتيارات أخرى ينتمون إلى موجة ثورية كبرى استغرق نشاطها عقودا.
ومن المعروف أن التحولات الكبرى في التاريخ تلتهب بالصراعات الداخلية، وتضطرم أجواؤها بالاضطراب السياسي والقلق الاجتماعي، وغالبا ما يصبح صناع الثورات ومن دشنوا حراكها هم أول ضحاياها. وإذا كان قد نُسب إلى أحد زعماء الثورة الفرنسية وهو جورج دانتون (ت 1208هـ/1794م) قوله إن “الثورة تأكل أبناءها”؛ فإن هذه المقولة تنطبق تماما على ثورة الهاشميين على بني أمية بكل متوالياتها الثورية.
وإذا كان الإمام المؤرخ تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) قد اهتم بالصراع السياسي بين بني أمية وبني هاشم حتى وضع فيه مصنَّفه الشهير «كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم»؛ فإن قصة البيت الحسني في ثورة النفس الزكية وما تبعها من تعميق لتخاصمه مع البيت العباسي تستحق أن تفرد لها الصفحات.
وهذه المقالة تسعى لتحرير معالم القول في قصة المسار الثوري الذي مضى فيه الإمام النفس الزكية في مواجهته مع العباسيين بعد الأمويين، ورسم ملامح البيئة السياسية والحاضنة الثورية التي تحرك فيها هو وجماهير أنصاره، مع بيان أبرز عوامل القوة والضعف التي تخللت حركته الثورية، وأهم الأسباب المنطقية التي أدت إلى ما آلت إليه من انتكاسة ثم فشل، والنتائج التي أسفرت عن هذه التجربة الثورية اللافتة؛ لاسيما أننا نعيش -في أيامنا هذه- بعض آثار وثمار ذلك المسار.
نشأة مكينة
تختلف الروايات في تاريخ ميلاد محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الملقب بـ”النفس الزكية” (ت 145هـ/763م). وإذا اعتمدنا رواية المؤرخ البَلاذُري (ت 279هـ/892م) -في كتابه ‘أنساب الأشراف‘- بأنه كان حين مقتله “من أبناء ستين”؛ فمعنى ذلك أنه وُلد -على الأقل- سنة 80هـ/700م.
ولئن تباينت المصادر بشأن تاريخ ميلاده؛ فإنها اتفقت على أنه نشأ في كنف أسرة من عمق البيت الهاشمي، فوالده هو عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 145هـ/763م) الذي لُقّب بـ”المحض” أو “الكامل” لأنه “كان من أجمل النّاس وأكملهم وأعلمهم”؛ طبقا للمؤرخ كمال الدين الفُوَطي (ت 723هـ/1323م) في ‘مجمع الآداب في معجم الألقاب‘.
وقد هيأت تلك الخصال التي اتصف بها عبدُ الله المحضُ لأن يكون “شيخ الطالبيّين في عصره”؛ وفقا لأبي الفَرَج الأصبهاني (ت 356هـ/967م) في كتابه ‘مَقاتل الطالبيين‘، بل إنها جعلت عند المقدرين لها “أحقّ الناس بالخلافة”؛ كما يقول الفُوَطي.
وأما أمُّ النفس الزكية فهي هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زَمْعة بن الأسود بن المطلب القرشي الأسَدي؛ فطرفا نسبه إذن من صميم قريش، ولذلك “كان يُقال له: ‘صريح قريش‘ لأنه لم تقم عنه أمُّ وَلَدٍ (= جارية) في جميع آبائه وأمهاته وجداته”؛ وفقا لأبي الفَرَج الأصبهاني.
وفي أجواء مجتمع المدينة النبوية المفعمة بروافد المعرفة؛ شق النفس الزكية طريقه ملتمسا العلم من والده أولا ثم راويا عن أئمة التابعين، فأخذ الكتاب بقوة وجمع السُّنة بحرص شديد، وقد وصف لنا هو جانبا من سعيه الحثيث ذلك بقوله: “كنتُ أطلب العلم في دُور الأنصار حتى أتوسّد عتبة أحدهم فيوقظني الإنسان فيقول: سيدُك قد خرج للصلاة، ما يحسبني إلا عبدَه”!!
وذلك حسب رواية الأصفهاني الذي يضيف أن والد النفس الزكية كان يصحب ابنيه محمدا وإبراهيم إلى الإمام المحدِّث طاووس بن كيسان اليماني (ت 132هـ/751م) ويقول له: “حدِّثْهما لعل الله ينفعهما”. ويَعرض الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- للأئمة الذين استمد منهم النفس الزكية حصيلته المعرفية وتكوينه العلمي فيذكر أنه “حدَّث عن نافع (مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب المتوفى 117هـ/736م)، وأبي الزناد (عبد الله بن ذكوان المتوفى 130هـ/749م)”.
ولئن كانت المصادر ضنت بتفاصيل الحياة العلمية للنفس الزكية، على غرار غيره من معاصريه الذين أخلصوا سعيهم للعلم تحمُّلًا وأداءً، دون الاهتمام بالشأن العام من سياسة وإصلاح؛ فإنها أمدتنا بمعطيات موحية بما كان له من حضور علمي على مستوى التدريس والإفتاء، رغم ظروف حياته الثورية وما فرضته من تخفيه تفاديا لبطش السلطتين الأموية ثم العباسية.
ومن ذلك أن الذهبي يفيدنا بأنه كان من تلامذته الذين رَوَوْا “عنه: عبد الله بن جعفر المَخْرَمي (ت 170هـ/786م)، وعبد العزيز الدَّرَاوَرْدي (ت 186هـ/802م)، وعبد الله بن نافع الصائغ (ت 206هـ/821م)”. وهؤلاء صاروا بعده أعلاما أسسوا مدارس علمية في العراق والحجاز، وتخرج على أيديهم أئمة كبار في الحديث والفقه؛ فتلميذه المَخْرَمي يذكر ابن سعد السمعاني (ت 562هـ/1167م) -في كتابه ‘الأنساب‘- أنه “روى عنه العراقيون وأهلُ المدينة”.
وتلميذه الدَّرَاوَرْدي يقول الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- إنه “روى عنه [الإمامان الحافظان]: شُعْبة (بن الحَجّاج المتوفى 160هـ/777م)، والثوري (سفيان الثوري المتوفى 161هـ/778م)، وهما أكبر منه [سِنًّا]، وإسحق ابن راهَوَيْه (ت 238هـ/852م)…، وخلقٌ كثير. قال معن بن عيسى (الأشجعي الإمام الحافظ المتوفى 198هـ/814م): يصلح أن يكون الدَّرَاوَرْدي أميرَ المؤمنين…؛ قلت (= الذهبي): حديثُه في دواوين الإسلام الستة…، وبكل حال فحديثه… لا ينحطّ عن مرتبة الحسن”. وقد ذكر ابن الأثير -في ‘الكامل‘- أن الدَّرَاوَرْدي كان ضمن المقاتلين مع شيخه النفس الزكية في ثورته، وأنه جعله مشرفا “على بيت السلاح” أي وزيرا للدفاع.
وأما تلميذ النفس الزكية الثالث: ابنُ نافع الصائغ؛ فقد صار “من كبار فقهاء المدينة” حسب الذهبي الذي يصفه بأنه هو أعلم تلامذة الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) “لطول صحبته له، وهو الذي خَلَفه في مجلسه بعد ابن كنانة (عثمـان بن عيسى بن كنانة المتوفى 185هـ/801م)…، وكان يُفتي أهل المدينة”!!
وفي مجال رواية الحديث النبوي؛ يضيف الذهبي أن النفس الزكية “وثَّقَه النَّسائيُّ وغيرُه” من أئمة المحدِّثين، ومن هؤلاء الذين وثقوه ابن حِبّان (ت 345هـ/959م) وابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م)، كما أخرج مروياتِه في دواوين الحديث أساطينُ أعلامه كالإمام الدارَقُطْني (ت 385هـ/996م)، وأبي جعفر الطحاوي (ت 321هـ/933م)، وأبي داود السجستاني (ت 275هـ/888م)، والنَّسائي (ت 303هـ/915م) في سُننه الكبرى، والبيهقي (ت 458هـ/1067م) في سُننه الكبرى.
ورغم أنه لم تردنا مصنفات علمية تركها النفس الزكية الذي قُتل في مطلع عصر التدوين؛ فإن كثيرا من مؤلفات المذهب الزيدي وغيرها تنقل عنه عددا من آرائه الفقهية، ولاسيما في بعض مباحث الفقه السياسي. وقد وُثقت مقولاتُه تلك في كتاب جمعها فيه وحققها الدكتور رضوان السيد بعنوان: «النفس الزكية: كتاب السِّيَر وما بقي من رسائل الدعوة والثورة». وعند تتتبع مقولاته في أبواب مثل الجهاد وقتال “البُغاة” (المعارضة السياسية المسلحة) ندرك جانبا من متانة تكوينه العلمي وعمق وأصالة آرائه وفتاويه.
ولعل أهمّ ما في آرائه الفقهية -ذات العلاقة بالسياسة والحرب- ليس فقط برهنتها على مكانته العلمية العالية، وإنما أيضا إفصاحها عن أنّ ثورته لم تكن فورة عشوائية بل كانت محصنة فقهيا وفكريا، وأنه كان منشغلا بقراءة دينية إصلاحية لواقعه يسعى إلى تطبيقها، وتتعلق بكافة جوانب الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية، وحالة السلم والحرب والعلاقات الدولية ونحو ذلك. أي أنّ ثورته لم تكن مجرد ردّ فعل على استبداد راسخ بقدر ما هي انعكاس لبيئة فكرية خصيبة ألهمتها وأنتجتها.
أما عن ملامح شخصيته؛ فإن الإمام ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) يصفه -في تاريخه ‘الكامل‘- فيقول: “كان محمد أسمر شديد السمرة، وكان المنصور يسميه مُحَمَّمًا [لشدة سواده]، وكان سمينا شجاعا كثير الصوم والصلاة، شديد القوة”! وعن ملمح قوته الجسدية هذا؛ يورد العُمَري -في ‘مسالك الأبصار‘- قصة ذات دلالة بالغة، فيقول: “كان محمد بن عبد الله أيِّداً (= قويًّا)، شَرَدَ لأبيه جَمَلٌ فعدا جماعة خلفه فلم يلحقه أحد سواه، فأمسك بذَنَبه فلم يزل يجاذبه حتى انقلع، فرجع بالذَّنَب في يده”!!
ميراث ثوري
وإلى تلك التربية العائلية المكينة والتكوين العلمي المتين؛ نشأ النفس الزكية في المدينة النبوية بما لها من طابع خاص، فهي حاضنة النموذج الاجتماعي والسياسي الإسلامي الأول، وكانت حينها مركزا لمن بقي من كبار الصحابة وموطنا لأبنائهم، كما هي موئل للتابعين وتابعيهم من أئمة الرواية والدراية وأعلام الدعوة والعلم في صدر الإسلام. وكل ذلك جعل المدينة قيّمة على مُثل الإسلام ومبادئه، صادحةً في وجه المنكر ومساندة لكل دعوة تسعى إلى ردّ الأمة إلى منهاج الحكم بالشورى.
وكان النفس الزكية أحد أبنائها الذين ارتبط وعيهم بكل ما تجسده بيئتها من مبادئ، وما تمثله من تاريخ في صناعة الخلفاء حين كانت عاصمة للدولة الإسلامية، ثم في تقاليد المعارضة السياسة منذ انتقال مركز الحكم إلى العراق أولا ثم إلى الشام مع دولة بني أمية، وما نالها في عهد سلطتهم من إيذاء ومتاعب جراء عصيانها لطاعتهم.
بيد أنه إذا كانت المدينة من جهة “جغرافيا الأفكار” بيئةً مثالية للفكر الثوري الذي استقطب رجالا مثل النفس الزكية، فإنها من ناحية “الجغرافيا السياسية” ظلت تمثل خاصرة رخوة لأي حركة نضالية مسلحة لسبب طبيعي مهم، ألا وهو طبيعة أرضها المحصورة بين كتل جبالها البركانية المحيطة بها، وضعف مواردها الاقتصادية الذاتية، وسهولة حصارها ومنع الإمداد عنها على أيدي أي قوة غازية.
وهو أمرٌ كان المنصور على وعي تام بأهميته في القضاء على التهديد الناجم له من ثورة النفس الزكية؛ فالبلاذري يخبرنا بأنه حين وصل نبأ إعلان الثورة إلى المنصور في العراق فكّر في طريقة يفرض بها حصارا اقتصاديا على الثائرين، ثم قال: “نكتبُ إلى مصر الساعةَ أن تقطع الميرة (= إمدادات الطعام) عن أهل الحرمين، وإنهم في مثل الحَرَجَة (= الشَّجَر المُلْتَفّ) إذا لم تأتهم الميرة من مصر”!!
كما أشار عليه أحد مستشاريه بمحاصرتها من جهة الشام أيضا؛ فقال: “ابعثْ مولًى لكَ تثقُ به، فلْيَسِرْ حتى ينزل بوادي القُرى (تقع اليوم على 290 كم تقريبا شمال غرب المدينة المنورة) فيمنعه ميرة الشام، فيموت مكانه جوعا، ففعل” المنصور ذلك؛ وفقا للطبري.
وقد تجسد عدم ملاءمة المدينة للثورة المسلحة في القارعة التي ألمّت بها قبل ميلاد النفس الزكية بنحو عشرين عاما، وهي “ثورة الحَرّة” سنة 63هـ/684م التي حاول فيها أهلُ المدينة -خلال عهد الصحابة- تغييرَ الحكم الأموي بالقوة أيام الخليفة يزيد بن معاوية (ت 64هـ/685م).
وقد ذكر الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- بعض تفاصيل هذه الثورة التي اشتعلت ضد يزيد قائلا: “وخرج عليه غيرُ واحد -بعد الحسين- كأهل المدينة؛ قاموا لله” إنكارا للظلم ودفعا للطغيان!! وكانت “ثورة الحَرَّة” هذه بقيادة كل من عبد الله بن مُطيع العَدَوي (ت 73هـ/693م) أميرا على المهاجرين، وعبد الله بن حنظلة الأنصاري (ت 63هـ/684م) أميرا على الأنصار.
لقد خلع أهلُ المدينة بيعةَ يزيد وبايعوا عبد الله بن مطيع عند منبر النبيّ ﷺ، وجعل مسجدَه الشريف مقرّ حكم دولته الوليدة، وخرج معه أكثر أهل المدينة لقتال جيش يزيد القادم من الشام، وكانت لرجالاتهم تضحيات جسام في هذه الثورة؛ فقد نقل الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) عن الإمام ابن شهاب الزهري (ت 124هـ/743م) أنه سُئل عن عدد “القتلى يوم الحرة [فـ]ـقال: سبعمئة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار ووجوه الموالي، وممن لا أعرف من حُرّ وعبْد وغيرهم عشرة آلاف”.
ولم تبرح تلك التجربة الأليمة ذاكرة النفس الزكية؛ حتى إنه في وسط ثورته وحينما طالبه أحد الأتباع بالذهاب إلى مكة وترْك المدينة أجابه فـ”قال: إن فُقِدت من المدينة قُتل أهلها كما قُتل أهل الحَرّة”؛ وفقا للبلاذري.
ولم تكن الحرة وحدها هي القادح لشرارة الحس الثوري لدى النفس الزكية؛ بل كان مرتبطا عنده بميراث ثوري أعرق في البيت الهاشمي، بدأت تجربته الأولى مع الإمام الحسين حين آثر الثورة وسيلة للاحتجاج السياسي على أوائل الأمويين، وتعزز بتجربته الثانية التي عاصرها النفس الزكية عندما انضم إلى ابن عمه الإمام زيد بن عليّ زين العابدين الهاشمي (ت 122هـ/740م) في ثورته على متأخري حكام الأمويين، وسوّغ حركته تلك بقوله:
“وإنما خرجتُ على بني أمية الذين قاتلوا جَدّي الحسين، وأغاروا على المدينة يومَ الحَرَّة، ورمَوْا بيت الله بحجر المنجنيق والنار” في قتالهم للصحابي الثائر على حكمهم عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م)؛ حسبما يرويه عن زيد مؤرخُ التيارات والأفكار عبدُ القاهر الجُرْجاني (ت 429هـ/1039م) في كتابه ‘الفَرْق بين الفِرَق‘.
لقد كان الوعي الثوري لدى الهاشميين مرتبطا بالسعي نحو التغيير؛ فالتحق النفس الزكية بجيش الإمام زيد وهو في نحو الأربعين من عمره تقريباً، فكان جنديّاً من جنوده واعيا بامتدادات الثورة الزيدية المتمثلة في خروج نجل قائدها يحيى بن زيد (ت 126هـ/745م) في خراسان سنة 122هـ/741م، ثمّ في خروج ابن عمهما عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الذي قُتل سنة 127هـ/746م بعد أن “أتاه قوم من أهل الكوفة فخرج فغلب على حلوان والجبال” شرق العراق؛ حسب الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) في تاريخه.
ورغم إخفاق الثورة الزيدية وما تلاه من إحباط لدى معظم أنصارها؛ فإن مسارها الثوري لم يفقد بريقه لدى النفس الزكية وعند جزء كبير من أهل بيته وأنصاره، لاسيما أن الخروج على أئمة الجور بات مبدأ أصيلا لدى الزيدية، ثم إنه تعزز عمليا بأن أوصى يحيى بن زيد بقيادة الثورة من بعده إلى اثنين من أبناء عمه من البيت الحَسَني، إذْ “فوَّض الأمر بعده إلى محمد (= النفس الزكية) وإبراهيم الإماميْن”؛ وفقا لمؤرخ الأفكار والفِرَق أبي الفتح الشهرستاني (ت 548هـ/1153م) في كتابه ‘المِلَل والنِّحَل‘.
وإبراهيم الموصَى إليه مع النفس الزكية هو أخوه إبراهيم بن عبد الله (ت 145هـ/763م) الذي قاد جناح الثورة في البصرة. ووفقا للأصفهاني في ‘مَقاتل الطالبيين‘؛ فإنه قد انضم إليهما في الثورة بعض أبناء البيت الحُسيني، كان من بينهم “الحسينُ وعيسى ابنا زيد بن علي”، فلما بلغ الأمر أبا الخليفة العباسي جعفر المنصور “قال: العجبُ لخروج ابنيْ زيد وقد قَتلْنا قاتلَ أبيهما كما قتله”!!
وعلى غرار النفس الزكية؛ كان معظم إخوته من الثوار على العباسيين، فقد اندفعوا في مسار التغيير وبثوا روح المعارضة السياسية ومقاومة الجور في ديار الإسلام. وقد رصد لنا الإمام ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ/1065م) -في كتابه ‘جمهرة أنساب العرب‘- أسماءَ أصحاب هذا الجهد الثوري من أبناء البيت الحسني، فقال إنهم: “محمّد القائم (= الثائر) بالمدينة؛ وإبراهيم القائم بالبصرة؛ ويحيى (ت نحو 180هـ/796م) القائم بالدّيلم (= أقصى شمالي إيران)؛ وإدريس الأصغر (ت 213هـ/828م) القائم بالمغرب؛ وسليمان قُتل بفخّ” وهي بلدة قرب مكة حيث ثار على العباسيين سنة 169هـ/785م.
إرهاصات ممهِّدة
ولِما كان عليه النفس الزكية من مكانة عالية في علمه وعائلته ومجتمعه؛ فقد بات محفوفا بالرعاية والتبجيل من آل البيت فكانوا “يسمونه المهدي ويقدِّرون أنه الذي جاءت فيه الرواية” بأنه هو “المهدي” لشَبَهِ هدْيه بهدْي رسول الله ﷺ؛ كما يروي الأصفهاني الذي يضيف أنه كان “علماء آل أبي طالب يرون فيه أنه «النفس الزكية»”.
وكان والده عبد الله بن الحسن يهيئ أسرته وولديْه لقيادة التحول الكبير، وعن ذلك يقول البلاذري: “وكان عبد الله يرشح ابنيه محمدا وإبراهيم للخلافة من قبل أن يُستخلف أمير المؤمنين أبو العباس السفاح (ت 136هـ/754م) ويسمي محمدا ابنه «المهديَّ» و«النفسَ الزكية»”.
ورغم أن الإمام جعفر الصادق لم يكن موافقا على بيعة النفس الزكية فإنه كان يحمل له ذات التقدير الذي تكنّه له الأسرة الهاشمية بأجمعها، وكان “إذا رأى محمد بن عبد الله [بن حسن] تغرغرت عيناه، ثم يقول: بنفسي هو! إن الناس ليقولون فيه إنه «المهديَّ»، وإنه لمقتول”!! ويحكي الأصفهاني عن أحد الرواة موقفا شاهده فيقول: “كنت أنا وجعفر متكئيْن في مسجد رسول الله ﷺ إذ وثب فزعا إلى رجل على بغل، فوقف معه ناحية واضعا يده على مَعْرَفَة (= موضع العُرْف) البغل، ثم رجع فسألته عنه، فقال: إنك لجاهل به؟! هذا محمد بن عبد الله مهديُّنا أهل البيت”!!
ولم يشذ عن هذا الإجماع الهاشمي حتى خصمه الأشهر أبو جعفر المنصور؛ إذْ قال عمير بن الفضل الخثعمي “رأيت أبا جعفر المنصور يوما وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه، وله فرس واقف على الباب… وأبو جعفر ينتظره، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب، ثم سوَّى ثيابه على السرج، ومضى محمد؛ فقلتُ وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمدا: من هذا الذي أعظمتَه هذا الإعظام حتى أخذت بركابه وسويت عليه ثيابه؟! قال: أو ما تعرفه؟! قلت: لا! قال: هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، مهديُّنا أهل البيت”؛ وفقا للأصفهاني.
وقد كان من نتائج مكانته هذه في آل البيت أن “ألقى الله محبته على الناس فمالوا إليه كافة، ثم عضد ذلك أن أشراف بني هاشم بايعوه ورشحوه للأمر، فقدموه على نفوسهم فزادت رغبته في طلب الأمر (= الخلافة)، وزادت رغبة الناس فيه” لتوليها؛ حسب ابن الطقطقي.
وهذا الإجماع يؤكد الاستحقاق الشخصي والخلقي الذي تمتع به النفس الزكية وجعله ينال كل هذا التقدير، ويبدو أن الدفع بـ”مهديته” كان مرجعه الشوق إلى التغيير، والبحث عن بطل يردّ المظالم ويبسط العدل والأمن، ويعيد خلافة المسلمين إلى سيرتها الأولى، وقد وصلت تلك الآمال إلى ذروتها في نهاية العصر الأموي، ليس عند آل البيت وحدهم بل عند جموع عظيمة من المجتمع الحجازي على الأقل، لاسيما أن حركة النفس الزكية جاءت في حقبة برزخية شهدت تصدُّع أركان دولة وتحفُّز أخرى للصعود.
ومن طبائع فترات مثل هذه أن تصعد فيها الأحلام والآمال، لكن النفس الزكية بحسب سيرته لم يركن لتلك الألقاب التشريفية فقط وإن كان وظفها في خطاب الشرعية العائلية نافسه عليها المنصور، فكان يصدِّر رسائله إليه بقوله: “من المهدي محمد بن عبد الله”؛ طبقا للذهبي في ‘السِّيَر‘.
لكنه مع ذلك قدّم خطابا سياسيا خالصا وممارسة عملية وحركية فعالة، ورفع مطالب عادلة تمسّ مطامح السواد الأعظم من الأمة، وهو ما جعله أهلا للقيام بهذا الدور فضلا عن أنه التزم مسار عمه زيد الذي جعل “الإمام” مهما كانت أوصافه وألقابه لا يكتسب شرعية إلا بدوره في التغيير والتضحية، ثم بعد ذلك بنيل رضا الناس ومبايعتهم.
فالزيدية -كما يقول قاضي القضاة المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) في ‘المقدمة‘- اشتهر عنهم أنهم “ساقوا الإمامةَ على مذهبهم فيها وأنها باختيار أهل الحلّ والعقد لا بالنصّ”. وقد جمع النفس الزكية بين الاستحقاق الثوري وشرعية المبايعة من أقطار عدة، بغض النظر عن المقصود بأوصاف “المهدوية” التي خُلعت عليه.
وفي سياق إرهاصات إعلان ثورته على العباسيين؛ تنقل كتب التراجم والتاريخ أن النفس الزكية كان يلزم البادية ويحيى حياة الخلوة في فلواتها، ولا يأتي الخلفاء ولا وُلاتهم حتى لا يعدّ ذلك إقرارا منه بشرعية ولايتهم، حتى إنه -كما يقول العمري في ‘مسالك الابصار‘- قد “أقام سنين مستترا في جبليْ طيئ: [أَجَأٍ وسَلمى]” اللذين يقعان اليوم بمنطقة حائل شمالي السعودية.
ويبدو أن هذا التخفي كان متعلقا بنشاطه الثوري السري تمهيدا لإحكام أمر الثورة بعيدا عن أعين العباسيين، وهذا ما يرجحه البلاذري بقوله: “واستتر محمد بن عبد الله وقد بايعه قوم من أهل بيته ومن قريش، وكان يخرج إلى البادية فيطيل المقام بها ثم يظهر أحيانا ويستتر أحيانا”.
ومما يؤكد البعد السياسي لهذا الاختفاء أنه كان محل ارتياب دائم من السلطات الأموية ثم العباسية؛ فقد روى الإمام المؤرخ محمد بن سعد الزُّهْري (ت 230هـ/845م) -في كتابه ‘الطبقات الكبرى‘- عن والد النفس الزكية أنه قال: “وفدتُ على هشام بن عبد الملك (ت 125هـ/746م) فقال لي: ما لي لا أرى ابنيْك محمدا وإبراهيم يأتياننا في مَنْ أتانا؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين! حُبِّبَ إليهما البادية والخلوة فيها، وليس تخلُّفُهما عن أمير المؤمنين لمكروه، فسكت هشام”!!
شرعية مختطفة
لقد تأسست الأرضية الثورية التي خرجت منها حركة النفس الزكية وما تلاها من تحولات كبرى -بحسب المؤرخ ابن الطقطقي- في “ذيل (= نهاية) دولة بني أمية”، خصوصا بعد انتكاسة ثورة الإمام زيد بالعراق وابنه يحيى بخراسان، وقبلها تعثُّر حركة الإمام الحسين؛ وهي كلها حركات تركت أثرا غائرا في نفوس بني هاشم من الطالبيّين والعباسيين، ودفعتهم إلى التفكير في سبل مواصلة هذا المسار الثوري “السلفي” الممتد.
وطبقا لما يورده ابن الطقطقي؛ فقد عُقد اجتماع للهاشميين بمكة في نهاية ولاية آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد (ت 132هـ/751م)، وحضره “أعيان بني هاشم علويّهم وعباسيّهم، فحضره من أعيان الطالبيين: الصادق جعفر بن محمد…، وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 144هـ/762م)، وابناه محمد «النفس الزكية» وإبراهيم قتيل باخَمْرَى (= بلدة كانت بين البصرة والكوفة)، وجماعة من الطالبيين. ومن أعيان العباسيين: السفاح والمنصور، وغيرهما من آل العباس”.
فهذا الاجتماع التاريخي تولدت عنه ملامح التحولات الكبرى التي قُدِّر لها أن ترسم التاريخ السياسي لأمة الإسلام طوال القرون اللاحقة. وكان مبعث الاجتماع شدة وطأة الواقع الذي تعيشه الأمة والضيق الذي مرّ به الهاشميون فـ”تذكروا حالهم وما هم عليه من الاضطهاد، وما قد آل إليه أمر بني أمية من الاضطراب، وميل الناس إليهم (= الهاشميين) ومحبتهم لأن تكون لهم دعوة، ثم قالوا لا بد لنا من رئيس نبايعه”!
ويضيف ابن الطقطقي أن الهاشميين أجمعوا أمرهم “فاتفقوا على مبايعة «النفس الزكية» محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن…، وكان من سادات بني هاشم ورجالهم فضلا وشرفا وعلما..، إلا الإمام جعفر بن محمد الصادق فإنه قال لأبيه (= النفس الزكية) عبد الله المحض: إن ابنك لا ينالها -يعني الخلافة- ولن ينالها إلا صاحب القَباء (= القفطان) الأصفر، يعني المنصور وكان على المنصور حينئذ قَباء أصفر. قال المنصور فرتبتُ العمالَ (= مسؤولي حكومته) في نفسي من تلك الساعة! ثم اتفقوا على مبايعة النفس الزكية فبايعوه ثم ضربَ الدهرُ ضَرْبَه، وانتقل المُلك إلى بني العباس”!!
والواقع أن ما حصل لم يكن ضربة عشواء من الدهر، بل خطة محكمة من بني العباس الذين سايروا كل الجماعات الثورية التي كانت تقاربت صفوفها في نهاية الدولة الأموية. ثم تمكنوا من توجيه مسار الثورة أو “اختطافها”، وتسيير حراكها نحو قواهم المتحفزة في خراسان التي كانت رهانهم الأكثر ذكاء من ناحية الجغرافيا السياسية.
وقد صدق حدس الإمام جعفر الصادق الذي كان يرى مآلات التغيير وتبدل العصبيات نحو العباسيين، وأدرك أن موازين القوة ليست في صالح النفس الزكية وفريقه، كما لم تكن في صالح الإمام زيد من قبله، ولذا رفض الانخراط في ثورة أبصر نتائجها الخاسرة.
وقد يكون من أسباب رفض جعفر الصادق مبايعةَ النفس الزكية تحفُّظُه على أهليته وهو قائد الثورة المقدَّم للخلافة، خاصة أنه نظير له في السن بما يعنيه ذلك من تأثير المعاصرة وحجبها للمناصرة بين الأقران، ولعل ذلك ما قصده جعفر الصادق حين خاطب والدَ النفس الزكية قائلا: “إنك شيخ، وإن شئتَ بايعتُك، وأما ابنُك فوالله لا أبايعه وأدعك”؛ حسب رواية الأصفهاني.
بل إن الذهبيّ يقول -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن موقف جعفر من ثورة النفس الزكية إنه لم يكتف بعدم تأييدها، بل كان يثبّط عنها كلَّ مَن أراد الالتحاق بها من أهل بيته و”يقول له: هو والله مقتول”!! وحين اندلعت أحداث الثورة “اختفى جعفر الصادق وذهب إلى مالٍ له بالفُـرُع (= بلدة كانت تابعة للمدينة) معتزلا للفتنة”، مع أنه حينها كان “سيدَ العلويين في زمانه”؛ وفق تعبير الذهبي في كتابه ‘العلوّ للعلي الغفار‘. وربما قصد الذهبي هنا أن جعفرا كان سيد الفرع الحسيني من العلويين، لما قدمناه من أن سيد الهاشميين بإطلاق أيامَها كان عبد الله المحض والد النفس الزكية.
ولعل هذا الاجتماع وما ترتب عليه من اتفاق هاشمي ثم وقائع انقلاب الفصيل العباسي عليه، يعطينا تفسيرا منطقيا لقسوة الصدام المروع الذي وقع بين أبناء الثورة الواحدة، ودارت وقائعه بين العلويين وأبناء عمومتهم من العباسيين، فقد شعر البيت الحسني بالخيانة والانقلاب على بيعة مبرمة واتفاق مشهود، ورأوا اختطاف ثمار المسار الثوري بعد أن كان العلويون طليعتَه وقادتَه، وهو ما عبر عنه النفس الزكية في مراسلاته مع المنصور: “الحقُّ حقُّنا، وإنما ادَّعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضلنا”!!
ومن جهة أخرى؛ فإن المنصور وشيعته كانوا يشعرون بأهليتهم لتولي الخلافة من حيث حقائق ميزان الشوكة وفاعلية الأداء الثوري، وأنهم هم الذين أخرجوا مشروع الثورة من حالة السيولة إلى وضعية التنظيم والتعبئة، ويتصورون أن ما تم من نجاحات أسقطت الأمويين كانت بسبب تجهيزاتهم الطويلة المدى، بل واستيعابهم للخسائر المريرة التي وقع فيها الهاشميون -بقيادة العلويين- في جولاتهم السابقة مع الأمويين، وأنهم لن يسمحوا بتكرار هزيمة الهاشميين مرة أخرى.
وفي تاريخهم الثوري السري دفع العباسيون أثمانا باهظة لم يكن أقلها كلفة ما عاشه كبار رجالاتهم من مطاردات أمنية أموية ضاغطة. ومن ذلك ما يفيدنا به الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- من أن شقيق المنصور إبراهيم بن محمد المعروف بـ”إبراهيم الإمام” (ت 131هـ/750م) ظل طوال إدارته للثورة العباسية “مختفيا عند رجل من أهل الكوفة قد حفر له نفقا في الأرض”!!
وقد بقي إبراهيم الإمام متواريا في نفقه السري حتى كشف أمرَه للأمويين أحدُ رجال دعوته كان من ضباط الارتباط بينه وبين القائد الميداني للثورة بخراسان أبي مسلم الخراساني (ت 137هـ/755م)، وعندها “وقف [الخليفة الأموي] مروان بن محمد (ت 132هـ/751م) على خبره، فوجّه إليه [جنوده] فأخذه وحبسه وقتله”!
كما كان للعباسيين تأويلهم الخاص في قضية شرعية الاستحقاق للخلافة بالنَّسَب النبوي والقرابة من صاحب الرسالة ﷺ، وهي مسألة ظلت حاضرة بين الثائرين من عموم الهاشميين من باب التوظيف السياسي وتعزيز الشرعية في قلوب جماهير العامة.
ولذا كان العباسيون يجادلون عن موقفهم بكون ميراث الخلافة حق شرعي أصيل لأبناء العباس عمّ النبي ﷺ وليس في أبناء فاطمة رضي الله عنها. وهو ما أبان عنه المنصور في رسائله الجوابية للنفس الزكية بقوله: “ولكنكم بنو بنته [ﷺ]، وإنها لقرابة قريبة ولكنها لا يجوز لها الميراث، ولا ترث الولاية ولا يجوز لها الإمامة، فكيف تورَث بها؟”؛ وفقا لرواية ابن الأثير.
وقد أجاد التعبيرَ عن تلك الحجة الفقهية “الفَرَضية” التي استمسك بها العباسيون شاعرُ بلاطهم مروان ابن أبي حفصة (ت 182هـ/798م) بقوله:
ما للنساء مع الرجال فريضة ** نزلت بذلك سـورة الأنعام
أنَّى يكون وليس ذاك بكائن ** لبني البنات وراثةُ الأعمام؟!
ولعل تصارع هذه السرديات والتأويلات، والتزاحم على تزعم الأرضية الثورية الذي وقع بين التياريْن الهاشمييْن، هو ما جعل الصراع المستجد بينهما مريرا وخطيرا؛ فقد قرر التيار العلوي -وخاصة فرعه الحسني- المواجهةَ، وردّ التيار العباسي بالفتك بهم والإيغال في قمعهم، فشقت الدولة العباسية طريق نشأتها وهي تحمل عبء هذا الصراع العائلي الذي ناءت به لاحقا، وأدى إلى ضعفها في نهاية المطاف جرّاء تصارع الأعراق والأجناس فيها وعليها، حتى فوجئوا -في عهد دولتهم الثاني- بالفاطميين وهم يهددون دولتهم، رافعين لافتة الانتساب إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنها!
احتواء مزدوج
ولما قامت دولة العباسيين وبويع أبو العباس السفاح أميرا للمؤمنين، وقد كان حاضرا في جلسة البيعة الشهيرة للنفس الزكية بمكة؛ لم يبرحه شعور القلق من التحركات التي يقوم بها البيت العلوي ممثلا في فرعه الحسني الذي ورث الحراك الزيدي.
وبالطبع كان السفاح مطلعا على مراحل الإعداد الثوري لهذا التيار، ومدرِكا لمطامح النفس الزكية وما له من أتباع في مختلف الأمصار، ولذا كان يستريب من غياب ولديْه الثورييْن محمد وإبراهيم عن الحضور إلى بلاطه، ومتشككا في نوايا والدهما عبد الله فـ”اشتد [السفّاحُ] عليه في طلب ابنيه، فقال: تغيبا فما أدري أين هما! فقال: أنت غيّبْتهما”؛ حسب الأصفهاني في ‘مَقاتل الطالبيين‘.
لكن السفاح لم يتعجل المواجهة مع الحَسنيين؛ فالظرف لم يكن يسمح بفتح جبهة حرب داخلية جديدة، إذْ الدولة في طور التأسيس ولا تزال التهديدات الأموية قائمة، بل إن الخلافات داخل البيت العباسي نفسه كانت مشتعلة على الأحقية في تولي الخلافة، فاتخذ السفاح سبيلا مرنا لاستيعاب الثورة الحسنية المتوارية، فكان يلوّح بعقوبة القتل في حال عدم استجابة الثائرين لبيعة العباسيين، ومن ذلك أنه خاطب عبدَ الله والدَ النفس الزكية وأخيه إبراهيم “فقال: أما إني لا أطلبه، والله ليُقتلنّ محمد وليُقتلنّ إبراهيم”؛ طبقا للبلاذري.
وفي المقابل؛ كان من أساليب الترغيب لدى السفاح أنه “خَصَّ عبد الله وواخاه (= آخاه) وآثرَه”، وقد قال له مرة: “يا أبا محمد! إني أرضى من ابنك محمد بأن يبايِع بالمدينة ولا يُشْخَص (= يحضر) إليّ، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أدري أين مستقرُّه”؛ كما يذكر البلاذري.
بل إن أبا العباس سعى لمصاهرة غريمه الثائر؛ فقد “زوّج محمدا ابنه زينبَ بنت محمد بن عبد الله” أي بنت النفس الزكية. كما حاول أن يقدم لأسرته بعض المكافآت والهدايا؛ فهذا عبد الله بن الحسن والدُ النفس الزكية “سمعه أبو العباس (= السفّاح) يقول: ما رأيت ألف ألف درهم (= اليوم مليونا دولار أميركي) قطُّ مجتمعةً! فدعا له بألف ألف درهم فوصله بها فقال: إنما أعطانا بعضَ حقنا”!!
ومع تولي المنصور الخلافة -إثر وفاة أخيه السفّاح- تغير الكثير من أساليب التدبير في الحكم فـ”أصّل الدولة وضبط المملكة، ورتّب القواعد وأقام الناموس (= النظام العام)”؛ وفقا لابن الطقطقي. ولكنه ظل على يقين من أن مواصلة أساليب أخيه لن تُجدي مع الثوار من أبناء عمه العلويين، فقرر المواجهة المفتوحة معهم بلا هوادة، وبذلك “كان المنصورُ أولَ من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين، وكانوا قبلُ شيئا واحدا”؛ وفقا للإمام جلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1505م) في كتابه ‘تاريخ الخلفاء‘.
ومما شجع المنصورَ على فتح الصراع مع العلويين أن الدولة قد اتجهت نحو الاستقرار وقضت على معظم خصومها، حيث قام بتصفية تمرد القائد التاريخي للثورة العباسية أبي مسلم الخرساني، وحسم القلاقل التي كانت تهدد الدولة في جناحها الشرقي، وسيطر على تمرد عمّه عبد الله بن علي (ت 147هـ/765م) الذي كان له الدور الأكبر في تصفية آخر الخلفاء الأمويين.
وبالمجمل؛ فإن المنصور استوعب ما كان يسميه ابن الأثير بـ”الفتوق والأحداث” التي واجهت الدولة في زمن السفاح، ولم يبق أمامه سوى النقاط الثورية الملتهبة في مكة والمدينة والكوفة. ولذا “لما استُخلف المنصور لم يكن همّه إلا أمر محمد [النفس الزكية]، والمسألة (= السؤال) عنه وما يريد، فدعا بني هاشم رجلًا رجلًا يسأل كل واحد سرًّا عنه، فكلهم يقول قد علم أنك عرفتَه يطلب هذا الأمر، فهو يخافك على نفسه، وهو لا يريد لك خلافا”؛ وفقا لابن الأثير. ويعلل الطبري انشغال المنصور بموضوع النفس الزكية بأن “أبا جعفر كان عقد له [البيعة] بمكة في أناس من المعتزلة” قبل سقوط الأمويين!
وقد حاول المنصور أن يستدرج محمد النفس الزكية بالحضور والبيعة على نهج قريب من نهج أخيه، ولكن والدهما كان يعرف نية المنصور فقال له: “سبحان الله! آتيك بولديّ لتقتلهما”!!
ملاحقات أمنية
لقد كان أخطر تحدٍّ يواجهه المنصور هو الاطمئنان إلى عدم وجود مشايعين للنفس الزكية من داخل رجال دولته وعماله، وقد استطاع بأسلوبه الأمني البارع أن يضع تحت متابعته اللصيقة واليه على المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي (ت بعد 145هـ/763م)، مما مكّنه من الاطلاع على عدم إخلاص مدير مكتب الوالي، فقد “كان كاتبُ زياد يتشيع، فبلغ ذلك المنصور فكتب إليه أن نحِّ كاتبك حفصاً فنحّاه عنه”؛ وفقا للأصفهاني الذي يفيدنا بأن المنصور اتهم زيادا نفسه بمناصرة الثائرين، وقال له: “قتلني الله إن لم أقتلك! حذرتَ ابنيْ عبد الله حتى هربا مِن بعدِ ما ظهرا”!!
والحق أن زيادا سمح للنفس الزكية بأن يأتي للمدينة سرا وأن يأخذ البيعة من الناس، ولذلك عزله المنصور، وكذلك فعل اثنان من الولاة الذين عينهم على المدينة خلفا للحارثي، ولم يقم بمهمة ملاحقة الثوار والتضييق عليهم سوى واليه الثالث رياح بن عثمان بن حيّان المري (ت 145هـ/763م).
ولكن المنصور اتخذ من هذا الخطر فرصة للإيقاع بخصمه وإخراجه من مختبئه؛ فالطبري يخبرنا أنه “كان أبو جعفر يكتب إلى محمد عن ألسنِ قوّادِه يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه”، ويبدو أن هذه الحيلة انطلت على النفس الزكية حين صدق تلك الرسائل الملغومة “فكان محمد يقول: لو التقينا [جيشَ المنصور] مالَ إليّ القوادُ كلُّهم”!!
ولم يَقْصُر المنصور أسلوبه الأمني على تحصين موظفي دولته؛ بل إنه مارسه على نحو مكثف ومنوّع على قوى المجتمع الأهلي في المدينة وخارجها، بحيث كان يبعث إلى الوجوه العلمائية البارزة رسائل ينتحلها على لسان النفس الزكية لكشف ما قد يكونون عليه من التفاف حوله وتأييد لثورته.
ومن ذلك أن المنصور وجّه رسالة مزيفة إلى زعيم تيار المعتزلة بالبصرة عمرو بن عُبيد (ت 144هـ/762م) ليختبر مدى ولائه النفس الزكية، ولما سلّمه الرسالة نظر فيها وأدرك ما وراءها من مكيدة، فأعاد الرسالة إلى الرسول وقال له: “قل لصاحبك: دعنا نجلس في هذا الظل ونشرب من هذا الماء البارد حتى تأتينا آجالنا في عافية”؛ حسبما يرويه ابن قتيبة الدِّينَوَري (ت 276هـ/889م) في كتابه ‘عيون الأخبار‘. وقد تحققت أمنية ابن عُبيد إذْ وافاه أجله في السنة التي سبقت اندلاع الثورة بالمدينة!!
وبالمثل اختبر المنصورُ أيضا ولاء أحد عظماء علماء السُّنة وهو سليمان بن مهران الكوفي المشهور بـ”الأعمش” (ت 148هـ/766م)، والذي يضفه الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بأنه “الإمام شيخ الإسلام، شيخ المقرئين والمحدِّثين”. ولكن الأعمش -الذي كان ذا خبرة سياسية وأمنية اكتسبها في دهاليز السلطة الأموية- لم يقع في الشَّرَك الذي نُصب له، بل واجهه بدعابته اللاذعة التي كان معروفا بها! فقد ذكر الطبري أنه “كَتَب أبو جعفر إلى الأعمش كتابا على لسان محمد (= النفس الزكية) يدعوه إلى نصرته، فلما قرأه قال: قد خبرناكم يا بني هاشم فإذا أنتم تحبّون الثريد! فلما رجع الرسول إلى أبي جعفر فأخبره، قال: أشهد أن هذا كلام الأعمش”!!
ومن اللافت فعلا ذلك الجهد الأمني الدقيق الذي بذله المنصور للكشف عن القوى الكامنة التي تؤيد الثورة سرا، فقد جدّ في توظيف أجهزة استخباراته وتنويع الواجهات التي تعمل تحت لافتاتها لكشف الخلايا الثورية، فـ”وَضَعَ على محمد وإبراهيم الأرصاد” أي الجواسيس، و”كان المنصور يدسّ قوما يتّجرون في البلدان ويتعرفون الأخبار”؛ طبقا للبلاذري.
ومن ذلك أنه بعث أحد جواسيسه “إلى المدينة ليعلمَ عِلْمَ محمد (= النفس الزكية)، فقِدَمها متنكِّرا فجعل يبيع العطر ويدسّ غلمانا يبيعون العطر ويسألون عن الأخبار، وكان يبذل [المالَ] ويعطي في طلبه ويكتب بالأخبار” إلى المنصور وهو بالعراق. كما يخبرنا الذهبي -في السِّيَر‘- أن المنصور وظف في ملاحقاته للثوار مماليكَه المتخفين في زي الرعاة من البدو، “فاشترى.. رقيقا من [عند] العرب، فكان يعطي الواحد منهم البعيرين، وفرّقهم في طلبه (= النفس الزكية) وهو مختفٍ”!!
بل إن المنصور وظف النساء في ملاحقاته الاستخبارية للنفس الزكية ومناصريه، خاصة أنهن كُنّ قادرات -بخلاف الرجال- على الدخول إلى أعماق البيوت، فكانت النساء المُخبِراتُ يدخلن الدُّورَ مستأمَناتٍ ويَخرجهن بأدقّ أخبار أهلها. ومن أغرب القصص في ذلك ما حكاه إبراهيم بن محمد البيهقي (ت نحو 320هـ/933م) -في ‘المحاسن والمساوئ‘- من أن المنصور أجرى بنفسه مرة تحقيقا أمنيا مصحوبا بتعذيب مع جارية لأحد العلويين، طالبا منها معلومات عن قائد الثورة النفس الزكية.
لكن الجارية صمدت في التحقيق و”أبت إلا الجحود، فقال لها [المنصور]: أتعرفين فلانة الحجامة؟ فاسودّ وجهُها وتغيرت! فقالت: نعم يا أمير المؤمنين..! قال: … هي والله أمتي ابتعتها بمالي ورزقي يجري عليها في كل شهر..، أمَرْتُها أن تدخل منازلكم وتحجمكم وتتعرف أخباركم! ثم قال: أوَتعرفين فلانا البقّال؟ قالت: نعم..، قال: هو والله مُضاربي (= مستثمِرٌ لي) بخمسة دنانير..، فأخبرني أن أمَةً (= خادمة) لكم يوم كذا وكذا من شهر كذا صلاة المغرب جاءت تسأله حنّاء ووَرَقاً، فقال لها: ما تصنعين بهذا؟ فقالت: كان محمد بن عبد الله في بعض ضِيَاعه (= مزارعه) بناحية البقيع وهو يدخل الليلة، فأردنا هذا لتتخذ منه النساءُ ما يحتجن إليه عند دخول أزواجهن من المَغيب، فأُسْقِط في يدها (= فُوجِئت) وأذعنت بكل ما أراد” المنصور البوحَ به من معلومات!!
جبهة واسعة
عمل محمد النفس الزكية على بناء جبهة ثورية عريضة، ومراكمة الزخم الكبير الذي تركه الإمام زيد الذي نظرت إليه جموع الأمة باعتباره أستاذه الثائر الكبير، وقد كانت تسود قطاعا معتبرا من تلك الجموع مشاعر عارمة تحاول ترشيد المسار السياسي بالعودة به إلى ما قبل المُلك العضوض، واستئناف النهج الراشدي في الحكم.
وقد قوّى من ذلك الشعور أن الثورة جاءت في وقت تحولات ضخمة تمرّ بها الأمة عبر الانتقال من دولة إلى أخرى، وبالفعل نجح النفس الزكية في أخذ البيعة له من الأقطار المركزية ذات الأهمية، والتي حددها هو بقوله في خطبته أمام أهل المدينة: “إني لم أخرج حتى بايعني أهل الكوفة وأهل البصرة وواسط، والبوكس نيوز (= شمالي العراق) والموصل”. ويلخص ذلك قول الأشعري -في ‘مقالات الإسلاميين‘- إن النفس الزكية “بويع له في الآفاق”، وهو ما يوحي بمقبولية عموم الناس للنفس الزكية ورضاهم به وبيعتهم له.
وفي المدينة مهد دولة الإسلام؛ استطاع النفس الزكية تشكيل جبهة ثورية واسعة ضمَّت عددا من البيوتات ذات الوزن الكبير في المجتمع القرشي؛ فالطبري يعُدّ ضمن “مَن استنصر مع محمد… آل الزبير… وآل عمر” ابن الخطاب، ويذكر من الكُتل المنخرطة في صفوف جيش الثورة عدةَ “قبائل من العرب، منهم: جُهَينة ومُزَينة وسُلَيم وبنو بكر وأسلم وغِفَار”.
ومن اللافت أن النفس الزكية نجح في استقطاب أبرز وجهاء مجتمع أهل المدينة حتى إن ابن الطقطقي يؤكد أنه حين ثار “تبعه أعيان المدينة ولم يتخلف عنه إلا نفر يسير”. وهو ما يؤكده الإمام ابن كثير بقوله -في ‘البداية والنهاية‘- إن النفس الزكية لما أعلن ثورته في المدينة خطب في الناس “وأخبرهم أنه لم ينزل بلدا من البلدان إلا وقد بايعوه على السمع والطاعة، فبايعه أهل المدينة كلهم إلا القليل”.
وأما الجناح العراقي من الثورة؛ فيذكر البلاذري أن قائده إبراهيم بن عبد الله حين أعلن الثورة تجهز لمحاربة جيش المنصور “فخرج في عشرين أو أكثر” كلهم من أعيان قبائل البصرة. ويقدّر الأصفهاني -في ‘مَقاتل الطالبيين‘- أن “ديوانه (= سجلّ الجنود) قد أحصى أربعة آلاف” مقاتل في البصرة وحدها، بل إن البلاذري يضاعف هذا العدد قائلا إنه “كان مع إبراهيم أحد عشر ألفا: سبعمئة فارس والباقون رجّالة”!!
والأهم من كل ذلك أن هذه الثورة نالت دعم طلائع العلماء خاصة في المدينة النبوية، وبعبارة ابن سعد -في ‘الطبقات الكبرى‘- فقد شاركَ فيها “جماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم”. وهذا يعزز القول بأن ثورة زيد وابنه يحيى ثمّ النفس الزكية لم تكن ثورات مذهبية أو طائفية، بل كانت ثورة لقطاع عريض من جماهير الأمة ضد جور بني أمية، ثم ما بدا أنه انحراف مبكر للحكم العباسي نحو الممارسات الأموية، وأن تلك الثورات هي استكمال لثورات الحسين وابن الزبير والفقهاء الذين خرجوا مع القائد الأموي القوي عبد الرحمن بن الأشعث الكِنْدي (ت 85هـ/705م).
لقد أورد الإمام المؤرخ ابن الأثير -في كتابه ‘الكامل‘- قائمة بأسماء نحو ثلاثين من علماء ووجهاء مجتمع المدينة النبوية انخرطوا في صفوف ثورة النفس الزكية، كما ذكر غيره من المؤرخين أسماء أخرى غيرها. وسنكتفي بأمثلة من كل ذلك مركّزين على أبرز العلماء الذين بايعوه ودعموا ثورته فخرجوا معه إما في المدينة نفسها أو مع أخيه إبراهيم في البصرة، وبعضهم شارك في تحضيرات الثورة ولكنه مات قبيل انطلاقها؛ فمن هؤلاء حسب ترتيب وفياتهم:
إسناد علمائي
1- عبد الواحد بن أبي عون الدوسي (ت 144هـ/762م)، وصفه الإمام جمال الدين المَزِّي (ت 742هـ/1341م) -في ‘تهذيب الكمال في أسماء الرجال‘- بأنه كان “من ثقات أصحاب الزُّهْري (الإمام ابن شهاب الزهري المتوفى 124هـ/743م)…، استشهد به البخاري (ت 256هـ/870م)، وروى له ابن ماجه (ت 273هـ/886م)”. وذكر ابن سعد -في ‘الطبقات الكبرى‘- صلته بثورة النفس الزكية فقال إنه كان مقربا من والده عبد الله بن الحسن “فاتهمه أبو جعفر في أمر محمد بن عبد الله أنه يعلم علمه، فهرب منه” وظل مختفيا حتى مات قبل انطلاق الثورة بسنة.
2- محمد بن عجلان القرشي (ت 148هـ/766م)، ترجم له الذهبي -في ‘السِّيَر‘- فقال إنه “الإمام القدوة الصادق بقية الأعلام…، وكان فقيها مفتيا، عابدا صدوقا، كبير الشأن، له حلقة كبيرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم”. ثم ذكر أنه ثار مع النفس الزكية على المنصور، فلما فشلت الثورة “همَّ والي المدينة جعفر بن سليمان (ت 174هـ/790م) أن يجلده، فقالوا له: أصلحك الله! لو رأيتَ الحسن البصري (ت 110هـ/728م) فَعَلَ مثلَ هذا أكنت تضربه؟! قال: لا! قيل: فابنُ عجلان في أهل المدينة كالحسن في أهل البصرة! وقيل: إنه همَّ بقطع يده حتى كلّموه، وازدحم على بابه الناس، قال: فعفا عنه”!!
3- الفقيهُ المحدّثُ عبد الله بن يزيد بن هُرْمُز (ت 148هـ/766م) الذي كان شيخا للإمام مالك بن أنس، ويذكر الطبري أنه جهّز نفسه للقتال رغم كِبَر سنّه فسُئل عن ذلك فقال: “قد علمتُ كِبَرَ سِنّي، ولكن يراني الجاهل فيقتدي بي”!! والنزعة الثورية عند هذا الإمام عريقة النشأة حتى إنه كان يربّي عليها تلامذته الذين سار بعضهم على طريقه فيها، فالطبري يروي بسنده إلى الإمام مالك بن أنس أنه كان يقول: “كنتُ آتي ابنَ هرمز فيأمر الجارية فتُغلق الباب وتُرخي الستر، ثم يذكر [صلاحَ] أولِ هذه الأمّة، ثم يبكي حتى تخضل لحيته! قال: ثم خرج مع محمد” النفس الزكية!!
4- الإمام أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ/768م) صاحب المذهب المعروف، وكان من أهم الداعمين للثورة بالمال والفتوى لثورة زيد بن علي. يقول الإمام الزمخشري (ت 538هـ/1143م) في تفسيره ‘الكشاف‘: “وكان أبو حنيفة -رحمه اللَّه- يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن عليّ.. وحمْل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المتسمِّي بالإمام والخليفة”. ويبدو أن مقتل زيد لم يجعل أبا حنيفة يتخلى عن ميراثه الثوري؛ إذ يروي الزمخشري أيضا أنه “قالت له امرأة: أشرتَ على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابنيْ عبد اللَّه بن الحسن حتى قُتل! فقال: ليتني مكانَ ابنِكِ”!!
ويقول الشهرستاني في ‘المِلَل والنِّحَل‘: “وكان أبو حنيفة… على بيعته (= النفس الزكية) ومن جملة شيعته، حتى رُفع الأمر إلى المنصور فحبسه حبس الأبد حتى مات في الحبس”. ويرى البعض أن وفاة أبي حنيفة لم تكن طبيعية بسبب موقفه الثائر هذا، فالإمام السيوطي يروي -في ‘تاريخ الخلفاء‘- أن المنصور ربما “قتله بالسم لكونه أفتى بالخروج عليه”!!
5- عبد الحميد بن جعفر الأنصاري (ت 153هـ/771م) الذي يصفه الذهبي -في ‘السير‘- بأنه “الإمام المحدِّث الثقة”. ويفيدنا الطبري بأن النفس الزكية حين وزّع المسؤوليات بين رجالات ثورته “ولَّى عبد الحميد بن جعفر الحربة، وقال: أكفنيها، فحملها ثم استعفاه منها فأعفاه”.
6- الفقيه المحدث أبو بكر عبد الله بن أبي سَبْرة (ت 162هـ/780م) الذي وصفه الذهبي -في ‘السِّيَر‘- بأنه “الفقيه الكبير قاضي العراق… كان مفتي أهل المدينة”. وكان هذا الإمام عاملا للمنصور على جمع أموال الزكاة فلما ثار النفس الزكية بالمدينة انضم إليه، ثم إنه “دفع إليه ما كان معه من المال (= الزكوات)، وقال: استعن به على أمرك! فلما قتل محمد قيل لأبي بكر: اهرب! فقال: ليس مثلي يهرب، فأخِذ أسيرا فطُرح في حبس المدينة” حتى أطلق سراحه لاحقا؛ طبقا للبلاذري.
7- الإمام عبد الله بن جعفر بن المسوّر الزُّهري (ت 170هـ/787م) الذي سبق أن ذكرنا تلمذتَه على النفس الزكية، ويخبرنا المؤرخ ابن سعد أنه “كان عالما بالمغازي والفتوى، وكان عبد الله بن جعفر من ثقات محمد بن عبد الله بن حسن (= النفس الزكية)، وكان يعلم علمه..، فلما خرج محمد بن عبد الله خرج معه”، وقد عيّنه مشرفا “على ديوان العطاء” أي وزيرا للمالية في حكومة الثورة؛ وفقا لابن الأثير.
ويضيف ابن سعد أن ابن المسوّر كان أهم عناصر شبكة المخبرين الذين اعتمد عليهم النفس الزكية في مواجهة الرصد الأمني الحثيث الذي أداره ضده المنصور بكثافة وكفاءة عاليتين، فكان “إذا دخل المدينة مستخفيا جاء حتى ينزل في منزل عبد الله بن جعفر، ويغدو عبد الله فيجلس إلى الأمراء ويسمع كلامهم والأخبار عندهم وما يخوضون فيه من ذكر محمد بن عبد الله وتوجيه من توجّه في طلبه [للقبض عليه]، فينصرف عبد الله فيخبر محمدا ذلك كلَّه..؛ فلما قُتِل محمد بن عبد الله اختفى [عبد الله بن جعفر] فلم يزل مستخفيا حتى استُؤمن له فؤُمِّن”.
8- إمام دار الهجرة مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) صاحب المذهب المعروف، فالطبري ينقل “أن مالك بن أنس استُفتي في الخروج مع محمد (= النفس الزكية)، وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر [المنصور]! فقال: إنما بايعتم مُكرَهين، وليس على كل مُكرَه يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته”.
وبسبب موقف مالك المؤيد للثورة؛ اعتَقله والي المدينة وأمر بضربه حتى انخلعت كتفُه وحُمل مغشيا عليه، لكنه رفض التراجع عن موقفه وقال في ذلك مقولته التي سجلها التاريخ في وجوب معارضة العلماء للسلطة إذا انحرفت: “ضُربتُ فيما ضُرب فيه سعيد بن المسيب (ت 93هـ/703م) ومحمد بن المُنْكَدر (ت 130هـ/749م) وربيعة [بن عبد الرحمن (ت 136هـ/754م)]، ولا خير في من لا يُؤذَى في هذا الأمر”؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.
مشاركة معتزلية
وبالنسبة لموقف تيار المعتزلة -الناشئ حينها- من ثورة النفس الزكية؛ فيمكن القول إنهم استقر رأيهم -بعد فشل أغلبية الثورات السابقة على الأمويين- على رفض الثورة إلا بعد التأكد من إعداد العدّة التي تضمن النجاح وتعطي غلبة الظن بالنصر، وأرجحية تحقُّق المصلحة على المفسدة. فشيخ المعتزلة القاضي عبد الجبار بن أحمد الهَمَذاني (ت 415هـ/1025م) يقول في كتابه ‘تثبيت دلائل النبوة‘:
“وما يحل لمسلم أن يُخَلّي أئمةَ الضلالة وولاة الجور إذا وَجَد أعواناً، وغلب في ظنه أنه يتمكن من منعهم من الجور، كما فعل الحسن والحسين [ابنا علي ابن أبي طالب]، وكما فعل القُرّاء حين أقاموا ابن الأشعث في الخروج على عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م)، وكما فعل أهل المدينة في وقعة الحَرّة، وكما فعل أهل مكة مع ابن الزبير حين مات معاوية (ابن أبي سفيان المتوفى 60هـ/681م)، وكما فعل عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م)، وكما فعل يزيد بن الوليد (بن عبد الملك الأموي المتوفى 126هـ/744م)؛ فيما أنكروه من المنكر” على حكّام عصورهم.
ومع ذلك الموقف المتحفظ من الثورات؛ فإن بعض الروايات التاريخية تشير إلى أنهم كانوا يؤيدون إسناد منصب الخليفة إلى النفس الزكية حتى قبل سقوط الدولة الأموية، وقد سبق القول بأن الطبري علّل انشغالَ المنصور -حين تولى الخلافة- بموضوع النفس الزكية بأن “أبا جعفر كان عقد له [البيعة] بمكة في أناس من المعتزلة”.
ولكن يبدو أن تلك البيعة لم تكن محل اتفاق بين زعماء المعتزلة؛ فإمامهم واصل بن عطاء (ت 131هـ/750م) كان يرى أحقية النفس الزكية في الخلافة بحكم أهليته ومصداقيته، وذلك ربما بسبب قرب واصلٍ من الهاشميين وخاصة زيد بن علي الذي يُعَدّ النفس الزكية امتدادا له في خطه الثوري.
وأما الرجل الثاني في زعامة المعتزلة عمرو بن عُبيد فقد مال موقفه الأصلي إلى الحياد، ولكن يبدو أنه كانت له علاقة قديمة بالمنصور أثرت في موقفه فأقعدته عن دعم النفس الزكية، بل إن الشهرستاني يؤكد أنه “والَى المنصورَ وقال بإمامته”.
وقد أمدّنا الأصفهاني -في ‘مَقاتل الطالبيين‘- بما يشبه “المحْضر” لمداولات جرت بين زعماء المعتزلة لاتخاذ موقف رسمي من ثورة النفس الزكية؛ فقد ذكر أنه اجتمع “واصل بن عطاء وعمرو بن عُبيد في بيت عثمان بن عبد الرحمن المخزومي (ت بعد 130هـ/749م) من أهل البصرة، فتذاكروا الجور، فقال عمرو بن عبيد: فمَن يقوم بهذا الأمر ممن يستوجبه وهو له أهل؟ فقال واصل: يقوم به والله من أصبح خيرَ هذه الأمة: محمد بن عبد الله بن الحسن!
فقال عمرو بن عبيد: ما أرى أن نبايع، ولا نقوم إلا مع مَنْ اختبرناه، وعرفنا سيرته! فقال له واصل: والله لو لم يكن في محمد بن عبد الله أمرٌ يدل على فضله إلا أن أباه عبد الله بن الحسن -في سنّه وفضله وموضعه (= مكانته)- قد رآه لهذا الأمر أهلا، وقدَّمه فيه على نفسه؛ لكان ذلك يستحق ما نراه له، فكيف بحال محمد في نفسه وفضله؟!”.
ويبدو أن الرأي الداعي إلى مناصرة النفس الزكية في ثورته هو الذي غلب داخل التيار المعتزلي، وخاصة بعد وفاة عمرو بن عبيد الذي سبق إعلان الثورة بسنة واحدة، وهذا ما يفسر مقولةَ المنصور: “ما خرجتْ عليّ المعتزلةُ حتى مات عمرو بن عبيد”؛ حسبما جاء في كتاب ‘فضل الاعتزال طبقات المعتزلة‘ للمؤرخ المعتزلي أبي القاسم البَلْخي (ت 319هـ/931م).
وتؤكد المصادر التاريخية للمعتزلة وغيرهم مناصرتَهم للثورة وقتالهم في صفوفها عندما اندلعت أحداثها، ولاسيما في معقلهم البصرة التي خرج فيها إبراهيم أخو النفس الزكية؛ فمؤرخهم البَلْخي مثلا يقول: “خرجتْ المعتزلةُ مع إبراهيم بن عبد الله… فيهم بشير الرحال (ت 145هـ/763م) فقُتلوا بين يديه صَبْراً، وذلك أن أصحابه انهزموا ووقف هو والمعتزلة وبشير الرحال”. وهو ما يؤيده البلاذري بقوله: “وقُتل إبراهيم وصبَر [معه] بعضُ الزيدية فقتلوا”!!
وانخراط المعتزلة في ثورة النفس الزكية ثابت حتى في مصادر خصومهم ممن ألفوا في تاريخ الفِرَق؛ فهذا الإمام أبو الحسن الأشعري يؤكد حصولها بقوله في كتابه ‘مقالات الإسلاميين‘: “ثم خرج بعد محمد بن عبد الله أخوه إبراهيم… بالبصرة فغَلب عليها وعلى الأهواز وعلى فارس وأكثر السواد (= المناطق الزراعية جنوبي العراق)، وشَخَص (= انتقل) عن البصرة في المعتزلة -وغيرهم من الزيدية- يريد محاربة المنصور… [فحارب جيشَه] حتى قُتل، وقُتلت المعتزلة بين يديه”!!
ونلاحظ هنا أن الأشعري جاعل مشاركة المعتزلة في الثورة جزءا من مشاركة تيار الزيدية العام فيها، نظرا ربما للعلاقة الخاصة التي تربط الجماعتين والتي لخصها المقريزي -في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘- بقوله إن الزيدية “يوافقون المعتزلة في أصولهم كلها إلا في مسألة الإمامة، وأُخِذَ مذهبُ زيد بن علي عن واصل بن عطاء”. كما يعترف بمناصرة المعتزلة للنفس الزكية شيخُ الشافعية باليمن يحيى بن أبي الخير العمراني (ت 558هـ/1163م)، بتأكيده -في كتابه ‘الانتصار في الرد على المعتزلة القَدَرية الأشرار‘- أن النفس الزكية وإخوانه لما ثاروا على العباسيين “تابَعَهم أكابرُ المعتزلة”!!
إعلان مبكر
يذكر أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) -في كتابه ‘البصائر والذخائر‘- أنه “رأى المنصورُ -فيما يرى النائم- كأنه قد صارع محمدا (= النفس الزكية)، وأن محمدا قد صرعه وقعد على صدره، فأهمَّه ذلك وبقي واجِماً، وجمَع العابرين (= مفسري الرؤيا)، فكُلٌّ وقَفَ [عن تعبير رؤياه]، فسأل جدَّ أبي العَيْناء فقال: إنك تغلبه وتظهر عليه! قال: وكيف؟! قال: لأنك كنت تحته والأرض لك، وكان من فوقك والسماء له، فسُرِّي عنه” وزال غمُّه!!
وبغض النظر عن مدى دقة هذه الرواية؛ فإن حكايتها تقدّم مفتاحا لفهم هاتين الشخصيتين المتصارعتين على إحدى أخطر صفحات التاريخ الإسلامي. فطبقا لما قد تشير إليه هذه الرؤيا؛ فإن الأرض للمنصور بكل ما تعنيه من قوة وغلبة ودهاء، والسماء للنفس الزكية بكل ما تشير إليه من أخلاقية ومثالية وسموّ نفس.
وإذا كان امتلاك قوة الدولة بكل أجهزتها هي نقطة القوة عند المنصور، فإن الدعوة إلى العدالة والميراث الثوري الزيدي والتفاف العلماء هي مرتكز قوة خطاب النفس الزكية؛ ولذلك حين استخدم المنصور المتاحَ لديه من الوسائل لإخماد هذا الحريق؛ فإن النفس الزكية رفض حتى قتل جواسيس خصمه، كما عارض اغتيال المنصور حين همّ به أتباعه أثناء زيارته لمكة سنة 140هـ/758م، وقال لهم النفس الزكية: “لا والله! لا أقتله أبدا غيلة حتى أدعوه، فنَقَض أمرَهم ذلك وما كانوا أجمعوا عليه” من تدبير الاغتيال؛ وفقا للطبري.
وقد لعب المنصور على الحس الأخلاقي العالي عند النفس الزكية من أجل الضغط عليه، ومحاصرته لجره إلى المكان والزمان المناسبيْن له وإجباره على الظهور المتسرع، بحيث لا يترك لحركته أي فرصة لاتخاذ قرارات متحررة من ضغط الملاحقة له ولآل بيته، فأمر المنصور سنة 144هـ/762م واليَه على المدينة بترحيل والد النفس الزكية وإخوانه إليه في العراق، فأمر جنوده بذلك فـ”حَملوا آلَ حسن في القيود إلى العراق…، جُعلوا في المحامِل ولا وِطاء تحتهم”؛ طبقا للذهبي. ويذكر ابن الطقطقي أن المنصور “أخذ مشايخ السادات منهم (= آل حسن)… فحبسهم عنده وماتوا في حبسه” بالعراق.
وهكذا نجحت خطة المنصور بإحراج خصمه وإخراجه قبل نضج الظروف المُنْجِحة لثورته وخطته؛ فابن الطقطقي يحدثنا أن النفس الزكية لما “علِم بما جرى لوالده ولقومه ظهر بالمدينة وأظهر أمره” قبل الأوان المخطط له. وهو ما يؤكده أيضا وبصراحة الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) بقوله -في ‘المنتظم‘- إن المنصور “أحرَج محمدا حتى عزم على الظهور، فخرج قبل وقته الذي فارق عليه أخاه إبراهيم”!!
ورغم الرصد الأمني الكثيف والضاغط من المنصور؛ فقد استطاع النفس الزكية مباغتة السلطات العباسية في المدينة النبوية بظهوره المفاجئ في شوارعها في أول ليلة من رجب سنة 145هـ/763م، معلنا الثورة في جيش عديده “مئتان وخمسون رجلا”؛ وفقا للطبري الذي ينقل في الوقت نفسه عن أحد قادة الثورة أنه “اجتمع مع محمد جمعٌ لم أرَ مثله ولا أكثر منه، إني لأحسب أنا قد كنا مئة ألف”!!
ولعل التفاوت الهائل بين التقديرين يفسَّر بأن الأول كان يمثل عدد جنود الثورة لحظة إعلانها، بينما يقدم الرقم الثاني -إن صحَّ ولم يكن مبالغة كالعادة في مثله- تقديرا لعددهم ساعة اصطدامها بالجيش العباسي، وما بين هاتين اللحظتين هو مجمل عمر هذه التجربة الثورية الخاطفة، فقد “مكث محمد بن عبد الله من حين ظهر إلى أن قُتل شهرين وسبعة عشر يوما” ختمها مقتلُه في منتصف رمضان من السنة نفسها؛ طبقا للطبري.
حكومة ثورية
وخلال تلك المدة القليلة تلقّب النفس الزكية بـ”أمير المؤمنين” لمبايعة الناس إياه بالخلافة، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ ثورات البيت العلوي، وهو ما يؤكده الإمام ابن حزم الأندلسي بقوله -في ‘رسالة نقط العروس في تواريخ الخلفاء‘- إنه “لم يتسمّ أحد من ثوار بني علي رضي الله عنه بالخلافة -على كثرة القائمين منهم- إلا محمد بن عبد الله” واثنان جاءا من بعده.
كما قدّم النفس الزكية خطابا سياسيا يتهم فيه العباسيين بارتكاب مظالم ومآثم؛ فطوال ثلاث عشرة سنة مضت من حكمهم حتى تلك اللحظة “نَجَمَ الجور، وخُولف الكتاب، وأُميتت السنَّة، وأُحييت البدعة”. وفي المقابل عرض النفس الزكية خلاصة برنامجه السياسي قائلا: “ونحنُ ندعوكم أيُّها الناس إلى الحكم بكتابِ الله، وإلى العمل بما فيه، وإلى إنكار المنكر، وإلى الأمر بالمعروف”؛ طبقا لإحدى خطبه أوردت نَصَّها كُتُب الزيدية ونقلها عنها الدكتور رضوان السيد في كتابه ‘النفس الزكية: كتاب السِّيَر وما بقي من رسائل الدعوة والثورة‘.
كذلك أقدم النفس الزكية على اتخاذ سلسلة من القرارات الكبرى تدل على جاهزية للتقرير وسرعة في التنفيذ، كما لو أنه فعلا أصبح ذا دولة مستتبة السيادة. وكان أول قراراته الإفراج عن المعتقلين “فأتى السجن… فدقّه وأخرج من كان فيه” من المساجين؛ طبقا للطبري الذي يقول أيضا إنه جاء ليلا “فدق السجن وبيت المال” بعد سيطرته على الوضع الأمني واعتقال أبرز رجال الإدارة العباسية بقيادة واليهم على المدينة رياح بن عثمان بن حيّان المري (ت 145هـ/763م).
كما شكّل النفس الزكية سلطة لإدارة شؤون الدولة وكان من اللافت أن اثنين من المعيَّنِين فيها من تلامذته الذين درسوا عليه قبل الثورة؛ وقد زوّدنا الإمام الطبري بأسماء شاغلي المناصب السيادية في هذه السلطة (وزارات العدل والداخلية والمالية والدفاع)، فقال إنه “لما أخَذ محمد المدينة استعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير (ت 145هـ/763م)، وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي (ت 158هـ/776م)، وعلى الشُّرَط (= الشرطة) أبا القَلَمَّس عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (ت بعد 145هـ/763م)، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مَخْرَمَة (ت 170هـ/786م)…، [كما] استعمل… عبد العزيز ابن الدَّرَاوَرْدي (ت 186هـ/802م) على السلاح”.
كما عيّن النفس الزكية ولاةً على أهم الأمصار التي بايعته، ويذكر الطبري بعضها قائلا: “استعمل محمدٌ الحسنَ بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على مكة…، [ثم] استعمل القاسم بن إسحق على اليمن، وموسى بن عبد الله على الشام…، فقُتل [النفسُ الزكية] قبل أن يصلا” إلى أماكن ولايتهما. وأيضا يذكر البلاذري أنه “خرج عثمان بن إبراهيم التيمي إلى اليمامة (= اليوم منطقة الرياض وجوارها بالسعودية) ليأخذها لمحمد فلم يصل إليها حتى بلغه قَتْل محمد”.
وصلت أنباء سيطرة النفس الزكية على المدينة -خلال تسعة أيام- إلى البلاط العباسي في العراق، ويلخص ابن الطقطقي تداعيات هذا الحدث العظيم قائلا: “قام المنصور وقعد، وتراخت المدة حتى تكاتبا وتراسلا، فكتب كل واحد منهما إلى صاحبه كتابا نادرا معدودا من محاسن الكتب، احتج فيه وذهب في الاحتجاج كلَّ مذهب. وفي آخر الأمر نَدَبَ [المنصورُ] ابنَ أخيه عيسى بن موسى (ت 168هـ/784م) لقتاله (= النفس الزكية)، فتوجه إليه عيسى بن موسى في عسكر كثيف، فالتقوا في موضع قريب من المدينة، فكانت الغلبة لعسكر المنصور، فقُتل محمد بن عبد الله وحُمل رأسه إلى المنصور، وذلك في [منتصف رمضان] سنة خمس وأربعين ومئة”.
وبذلك طُويت صفحة مركز الثورة في الحجاز لتتبعها سريعا تصفية جناحها في البصرة وجوارها جنوبي العراق عندما “أخِذ أصحابُ إبراهيم وعمّاله فقُتلوا في البوادي والنواحي”؛ طبقا للبلاذري.
انتكاسة سريعة
قد يكون من الخطأ تفسير ما آل إليه أمر ثورة النفس الزكية بضعف خبرته العسكرية، أو أنه لم يكن مدركا لطبيعة الميدان الذي وقعت عليه معركته وهو فضاء المدينة النبوية، فهو كان أحد رجالات جيش الإمام زيد حيث تمرس في العمل العسكري، لكن سيادة الروح الثورية المثالية على الروح العسكرية الواقعية عند النفس الزكية ولدى أتباعه هي التي جعلته يتخذ الكثير من القرارات غير المناسبة، فقد تم الضغط عليه من أتباعه برمزيته “المهدوية” التي تم تحميلها أكثر مما تحتمل، ومن ذلك افتراضهم أنه سيكون مؤيَّدا بالنصر بغض النظر عن الأسباب!
والواقع أن النفس الزكية كان مدركا لكل ذلك؛ فعندما فضّل الخروج في المدينة على ما عداها من الحواضن الأخرى كان واعيا بإشكالاتها الإستراتيجية، فالبلاذري يفيدنا بأن النفس الزكية خطب أتباعه في المدينة صبيحة اليوم الذي سيطر عليها فيه، فقال: “يا أهل المدينة! إني والله ما خرجتُ فيكم للتعزُّز بكم، فلَغيرُكم أعزُّ منكم، وما أنتم بأهل قوة ولا شوكة، ولكنكم أهلي وأنصار جَدّي فحبوتكم بنفسي، والله ما من مصرٍ يُعبد اللهُ فيه إلا وقد أخَذتْ لي دعاتي فيه بيعةَ أهلِه”!!
ولم يكن النفس الزكية هو وحده صاحب التقدير لتلك الإشكالات وإنما يبدو أنها كانت حصيلة نقاشات كبار مستشاريه، حتى من العلماء الذين قد يُفترض فيهم أنهم أبعد الناس عن تلك المعياريات الإستراتيجية في خطط الحروب وإدارتها. فالطبري يخبرنا بأن الإمام المحدّث عبد الحميد بن جعفر الأنصاري “قال: إنا لَعِنْدَ محمد (= النفس الزكية) ليلة… إذْ قال محمد: أشيروا عليّ في الخروج والمقام، قال: فاختلفوا فأقبل عليَّ فقال: أشر علي يا أبا جعفر، قلت: ألستَ تعلم أنك أقلّ بلاد الله فَرَسًا وطعاما وسلاحا وأضعفها رجالا؟ قال: بلى، قلت: تعلم أنك تقاتل أشد بلاد الله رَجُلًا وأكثرها مالا وسلاحا؟ قال: بلى، قلت: فالرأيُ أن تسير بمن معك حتى تأتي مصر، فو الله لا يردُّك رادٌّ، فتقاتل الرجلَ (= المنصور) بمثل سلاحه وكُرَاعه (= خَيْله) ورجاله وماله”!!
كذلك فإنه وفقا لتقديرات الموقف التي قُدّمت إلى المنصور من مستشاريه؛ فقد استبعد بعضهم أن يخرج النفس الزكية من المدينة باعتبارها بلدا “ليس فيه زرع ولا ضرع ولا تجارة واسعة”؛ حسبما جاء في كتاب ‘مسالك الأبصار‘ للعمري الذي يؤكد أن الترجيحات كانت تميل إلى إعلان الثورة من البصرة، إذْ لما سأل المنصور أحد كبار مستشاريه عن ترجيحه لذلك قائلا:
“هل كان عندك من هذا علم؟ قال: لا، ولكني لما ذكرتَ لي خروجَ رجل إذا خرج مثلُه لم يتخلف عنه أحد، ثم ذكرت البلد الذي خرج به (= المدينة) فإذا هو لا يحتمل الجيوش، فعلمت أنه سيطلب غير بلده، ففكرت في مصرَ فوجدتها مضبوطة، وفي الشام والكوفة فوجدتهما كذلك، ثم فكرت في البصرة فوجدتها خالية فخفتُ عليها؛ فقال له المنصور: أحسنت”!!
والغريب أن البصرة كانت فعلا عاصمة الثورة الثانية بقيادة إبراهيم بن عبد الله أخي النفس الزكية، ومثل هذا التقدير لا يخرج بهذا الشكل إلا عن علم مسبق بالقدرة العسكرية للخصم، مما ينفي عن معسكر الثورة السذاجة العسكرية بشهادة خصومهم في مجلس حرب المعسكر العباسي.
إن الفكر العسكري السليم كان يحتم أن يتجنب محمد النفس الزكية المواجهة المباشرة إلى حين توافر القاعدة العسكرية والسياسية المناسبة، وفي حال قرر المواجهة كان عليه أن يحافظ على إستراتيجية الحروب اللانظامية -أو “حرب العصابات”- على غرار ما فعلت تنظيمات الخوارج السابقة عليه والمعاصرة له، حتى يتسنى له وجود دولة مركزية حاضنة مثل مصر أو الشام أو بلاد اليمن التي أوشك النفس الزكية أن ينحاز إليها؛ فالبلاذُري يخبرنا أنه “كان المنصور أمر القواد أن يكاتبوا محمدا ويُطْمِعُوه في أنفسهم، لأنه كان [عازما] على المضيّ إلى اليمن، فلما فعلوا أقام ولم يبرح المدينة”!!
انضباط غائب
كذلك يبدو أن تكوينات جيش النفس الزكية لم يحكمها مبدأ الانضباط العسكري، وكان فيهم من يتقن الفكر العسكري ومن لا يحسنه، ويبدو أن هذا الجزء الأخير كان يحاصر قائد الثورة بالمزايدات والشعارات المنفكّة عن البصيرة الحربية اللازمة.
فرغم أن ما دخل فيه النفس الزكية من تدابير الثورة يعدّ أمرا من صميم السياسة العملية وفن الحرب، وهي قضايا اجتهادية تحكمها حسابات المصلحة ومعطيات الميدان المتقلبة؛ فإنه استجاب لأصحاب الصوت الأعلى المزايد على الصوت العسكري ربما خشية من تفرق الكلمة، وقد أثر ذلك على بعض قراراته الحربية الحاسمة التي جنح فيها إلى التأسي بـ”النص” رغم أنها من موارد “الاجتهاد” البحت.
فمثلا عندما جمع النفس الزكية أصحابه “استشارهم في حفر خندق رسول الله ﷺ، فقال له جابر بن أنس (ت بعد 144هـ/762م) رئيس [قبيلة] سُليم: يا أمير المؤمنين نحن أخوالك وجيرانك، وفينا السلاح والكُرَاع (= الخيل)، فلا تُخَنْدِق الخندقَ، فإن رسول الله ﷺ خَنْدَقَ خَنْدَقَهُ لِمَا اللهُ أعلَمُ به، وإنْ خَنْدَقْتَهُ لَمْ يَحْسُنِ الْقِتَالُ رَجَّالَةً (= مشاةً)، ولم تُوَجَّهْ لنا الخَيْلُ بين الأزقة، وإن الذين تُخَنْدِقُ دونهم هم الذين يحول الخندقُ دونهم”؛ طبقا لابن الأثير.
لا شك في أن رأي زعيم قبيلة سُليم كان أصوب عسكريا، ويبدو كذلك أنه صدر ممن هم أكثر الناس إخلاصا لقائد الثورة وأصدقهم التفافا حوله بسبب صلة القرابة حسبما جاء في النص، لكن هذا الرأي واجه معارضة من بعض قادة معسكر الثورة قادها رجل من بني شُجاع من قبيلة جُهَينة، فقد خاطب هذا الرجلُ النفسَ الزكية قائلا: “خَنْدِقْ، [فقد] خَنْدَقَ رسول الله ﷺ فاقتدِ به، وتريد أنت أن تدع أثَرَ رسول الله ﷺ لرأيك! قال: إنه والله يا ابن شجاع ما شيء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم، وما شيء أحب إلينا من مناجزتهم”!!
وتعليق النفس الزكية هذا يؤكد أنه يعرف مرامي تلك المزايدة، وأنها ليست أكثر من تهرُّب من القتال والمواجهة، ومع ذلك فقد قال لرجاله:” إنما اتبعنا في الخندق أثرَ رسول الله ﷺ فلا يردني أحد عنه فلست بتاركه! وأمر به فحُفر، وبدأ هو فحَفَر بنفسه [مكان] الخندق الذي حفره رسول الله ﷺ للأحزاب” في غزوة الخندق سنة 5هـ/627م.
لقد كان من الطبيعي ألا تصمد كافة أجنحة هذا التشكيل العسكري غير المنضبط لحظة اشتداد المواجهة مع جيش المنصور بقيادة ابن أخيه المحنّك عيسى بن موسى العباسي (ت 168هـ/784م)، ولذلك يخبرنا ابن الأثير أنه حين حمي وطيس المعركة من حول النفس الزكية سرعان ما “تفرق عنه جُلّ أصحابه حتى بقي في ثلاثمئة رجل يزيدون قليلا، فقال لبعض أصحابه: نحن اليوم بعِدّة أهل بدر”!!
وهكذا فإن الجزء الباقي من المعركة أخذ بعدا فدائيا مثاليا، لا تحكمه قواعد الفكر العسكري في الكَرّ والفَرّ، وإنما تقوده الروح الاستبسالية في الإقدام والتضحية، ويبدو أن النفس الزكية أراد أن يخط لنفسه نهاية كريمة تترك أثرها في مخيلة الأتباع، وكانت تلك النهاية تجسيدا لإحدى وصايا والده عبد الله التي خاطبه بها مع أخيه إبراهيم؛ فقال لهما حسب ابن الأثير: “إنْ منَعَكما أبو جعفر -يعني المنصور- أن تعيشا كريميْن فلا يمنعكما أن تموتا كريميْن”!!
ويبدو أن تلك الوصية لم تبرح ذهن النفس الزكية في ختام المعركة؛ إذْ “كان محمد قد جمع الناس، وأخَذَ عليهم الميثاق، وحَصَرَهم فلا يخرجون [من المدينة]، وخطبهم… فقال لهم: «إن عدوّ الله وعدوّكم قد نزل الأعْوَص (= موضع قرب المدينة)، وإن أحق الناس بالقيام بهذا الأمر لَأبناءُ المهاجرين والأنصار، ألا وإنا قد جمعناكم وأخذنا عليكم الميثاق، وعدوُّكم عددٌ كثير، والنصرُ من الله والأمر بيده، وإنه قد بدا لي أن آذن لكم، فمن أحب منكم أن يُقِيم أقام، ومن أحب أن يظعن (= يرحل) ظَعَن»”!!
وأما النفس الزكية فقد ثبت في الميدان أمام ضغط أعدائه المكثف “وصابرهم… إلى العصر، ثم جعل الناس يتفرقون عنه وهو يقول: يا بني الأحرار إلى أين؟ وقَتل بيده اثني عشر رجلا”؛ وفقا للبلاذري. لقد ذهب نداء قائد الثورة المستنجد سدى في غبار المعركة؛ إذْ كان من نتيجة خيار الفرار الذي أتاحه لمقاتليه أن رفع الحرج عمن لا قدرة له على الاستبسال في القتال، وبالتالي -كما يقول ابن الأثير- تفلّت أنصار الثورة من ميدان المعركة “فخرج عالَمٌ كثير، وخرج ناس من أهل المدينة بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض (= النواحي) والجبال، وبقي محمد في شرذمة يسيرة” حتى قُتل مقْبلا غير مدْبر ومعه عدد غير قليل من أعيان فرسان جنده!!
وفي نهاية مقالتنا إذا كان لديك أي اقتراحات أو ملاحظات حول الخبر، فلا تتردد في مرسلتنا، فنحن نقدر تعليقاتكم ونسعى جاهدين لتلبية احتياجاتكم وتطوير الموقع بما يتناسب مع تطلعاتكم ونشكرًكم علي زيارتكم لنا، ونتمنى لكم قضاء وقت ممتع ومفيد معنا.