تجربة الروائي الراحل إلياس فركوح.. السرد والسيرة والانعتاق من سجن هوية أحادية البعد | ثقافة – البوكس نيوز

تجربة الروائي الراحل إلياس فركوح.. السرد والسيرة والانعتاق من سجن هوية أحادية البعد | ثقافة – البوكس نيوز

البوكس نيوز – اخبار – نتحدث اليوم حول تجربة الروائي الراحل إلياس فركوح.. السرد والسيرة والانعتاق من سجن هوية أحادية البعد | ثقافة والذي يثير الكثير من الاهتمام والجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكما سنتناول بالتفصيل حول تجربة الروائي الراحل إلياس فركوح.. السرد والسيرة والانعتاق من سجن هوية أحادية البعد | ثقافة، وتعد هذا المقالة جزءًا من سلسلة المقالات التي ينشرها البوكس نيوز بشكل عام.

تقيم كتابة الأديب الأردني الراحل إلياس فركوح (1948-2020) في منطقة بينية وسطى يمكن أن نصطلح على تسميتها بـ”أرض اليمبوس”، وهي التسمية التي اختارها فركوح عنوانا لروايته الثالثة واستوحاها من الثقافة المسيحية، بما يقرب من منطقة “الأعراف” وفق التصور الإسلامي.

تنطلق كتابة فركوح من ذلك الأصل وتتوسع به إلى حدود بعيدة، أي أنه امتد بهذه المنطقة ذات الأصل الاعتقادي البيني وتعامل معها بوصفها استعارة وجودية تشمل حياته وتفكيره وأدبه، وتصلح أن تكون أوسع مدخل أو مفتاح يمكن أن يعيننا على قراءة مدوّنته الأدبية والثقافية الواسعة، بما فيها من ثراء في الرؤية وتنوع أسلوبي. إنها مفتاح المعنى والمبنى معا في هذه التجربة الأدبية الأصيلة.

“اليمبوس”، وفق الاعتقاد المسيحي، تصوّر لمنطقة وسطى أو بينية بين الجنة والجحيم، إنها منطقة ثالثة، غير محسومة تماما، تتداخل فيها المكونات وتختلط فيها العناصر، وقد عرّفها فركوح في عتبة افتتاحية دالة بأنها: “المنطقة الوسط -بحسب المفهوم الكاثوليكي- أو الثالثة ما بين الجنة والجحيم، تودع فيها أرواح الأطفال الأبرياء الذين ماتوا قبل نيلهم المعمودية، لتزول عنهم الخطيئة الأصلية.. ضمن الإيمان المسيحي. وكذلك هي المنطقة التي تعيش فيها أرواح البررة من غير المؤمنين والخيرين الذين نشؤوا في أزمنة الكفر إنما لا ذنب لهم لعدم إدراكهم رسالة المسيح” (فركوح، أرض اليمبوس، ص: 5).

وفي نهاية العتبة السابقة يذكّرنا بالمؤلف الإيطالي الشهير دانتي، الذي أفرد لليمبوس قسما من “الكوميديا الإلهية”، وكذلك الأديب الأرجنتيني بورخس الذي عمل على رسم خريطة لهذه المنطقة بوحي من توصيف دانتي. ويمكننا أن نضيف إلى دانتي وبورخس تجربة أبي العلاء المعري في رسالة الغفران، وفيمن التقى بهم في الجنة أو النار أو في الأعراف فيما بينهما.

وهذا التناول يضعنا في منطقة بينية يلتقي فيها الأدب بالأفكار الفلسفية وبالتأمل المصيري، وبما يمكن اعتباره نوعا من تدبر هوية الوجود، وهوية الإنسان ومآله فيه، بما يتجاوز حدود الواقع بمعناه الحياتي أو الاجتماعي أو الثقافي ليعانق المعاني والدلالات الوجودية الشاملة. وهذا واحد من الميزات التأملية التي تسم كتابة فركوح في مآلها التعبيري والاستشرافي، ذلك بأنها دوما تتدبر البعيد وترنو إليه.

دلالة أرض اليمبوس

“أرض اليمبوس” إذن ينبغي أن تؤخذ باتساعها الدلالي وبالصورة التي وسّعها فركوح وعبّر عنها بصيغ بينية متشعّبة تلمّ أشتات معظم الظواهر والخصائص التي نعرفها في كتابة فركوح ومن ورائها شخصيته وطريقته في التفكير والتعبير.

تصلح “اليمبوس” بوصفها استعارة، لتكون عنوانا اصطلاحيا أو عبارة مسكوكة لإدراك اختيار إلياس فركوح في كتابته السردية لتقيم في منطقة التقاطعات، أي في ملتقى السيرة الذاتية مع الرواية/القصة القصيرة إلى جانب ركن ثالث هو مسألة الهوية بصورها المركّبة المتحوّلة.

ويسمح لنا ذلك باستنتاج خلاصة مبدئية تتمثل في أن كتابة فركوح على وجه الإجمال تنتمي لبؤرة حرجة من التقاطعات بين هذه الأركان الثلاثة، وإذا كانت السيرة والرواية/القصة مما ينتمي إلى أجناس الأدب، فإن الهوية تمثل الجامع الثقافي والتجلي التعبيري الذي يطمح لقاء الرواية والسيرة إلى مساءلته وتفهمه وتجليته واكتشافه.

لم يكتب فركوح سيرة صريحة أو حتى مقنّعة لنفسه، ولكنه طوّر القصة القصيرة وحفّز الرواية (وهما يشتركان في أنهما وفق عقدهما السردي جنسان ينتميان للتخييل) لا ليروي من خلالهما سيرته فحسب، وإنما ليصقل السيرة مستعينا بآليات الذاكرة وبإمكانات الوعي السؤول (المتشكك واللايقيني..) فتغدو الرواية سبيلا من سبل مساءلة الهوية ومواجهة مآزقها وتعريفاتها وتجلياتها الجميلة والبشعة على مستوى الفرد والجماعة، وعلى مستوى المآل الوجودي لهوية الإنسان ككائن يقيم في منطقة التساؤل والترحال.

إذن نقرّ بِصلة رواياته بسيرته، ونقوّي هذا الإقرار بروابط كثيرة صرّح بها الكاتب نفسه في كتاباته النقدية وفي شهاداته المرافقة لأدبه، فإننا نحذّر من قراءة تلك الوقائع بعد أن دخلت السياق الروائي بالطريقة المعهودة لقراءة السيرة الذاتية، ذلك بأنها تعرّضت للتحوير ولكل ما يسمح به التخييل حتى غدت ضربا من ضروب “التخييل الذاتي” الذي يُشعرن وقائع الحياة ويبدّلها إضافةً وحذفا وتأويلا وقبولا ورفضا، ويمضي بها إلى مآلات تشبه الأحلام ومناطق التقاطع بين الواقعي والمتخيل، وبين الممكن والمستحيل، بين ما وقع وما رغبت الذات في وقوعه.

وينتج عن ذلك نص جديد تغتني فيه الرواية وهي تتأمل تصاريف الواقع، وترتفع فيه السيرة عن مجرد استذكار لحياة سابقة، ليغدو اللقاء لقاء أسئلة وتأمل ومراجعة، وهي من دون شك منطقة أصيلة من مناطق الأدب الذي يميل إلى إثارة التفكير ومشاركة القارئ والانتقال به إلى القلق الإبداعي المنتج، وليس استقبال الأحداث المحايدة.

وفي لمحة من لمحات تحويل السيرة إلى مادة روائية، نجد الكاتب يعيد تأمل ميلاده سنة 1948 الذي يوافق سنة النكبة الفلسطينية، فيجعل هذا التاريخ تاريخا فاصلا في حياته وتكوينه لا يستطيع فكاكا منه، فيكتب في “أرض اليمبوس”:

“ولدت في سنة النكبة!

خرجت من رحمها!

تحت برج الحوت كانت ولادتي، والحوت ابتلع بلادا اسمها فلسطين؛ فخرجت إلى عالم ناقص أزعق باكيا مطالبا بما يكفي من هواء. أكان الهواء ملوّثا بحسب رواية التاريخ؛ أم أنني زعقت، أسوة بغيري من مواليد 1948، لأنني أخرجت من الرحم؟ ما عرفت بأنني تنشقت سخام حرائق الحرب المدوّخ للبشر المهاجرين من حولي، جاعلا من حكاياتهم حكاياتي. ألهذا، كلما عدت إلى حكاية منها لأستذكرها وجدتها مترنحة، كأنها دائخة، تستعين بغيرها لتكمل نقصها المنسيّ! أو فهم تلك المنفلتة صوب شبح حكايات لم تولد أصلا، فأرادت أن تكون ولو بالحكي؟ أهو سخام الحرائق ما يلوث حتى الحكايات ويشوش تتابعها؟

غير أن أبي قال، من جملة ما قال: “لا شيء يكتمل!” (أرض اليمبوس، ص: 29-30).

روايات فركوح

وإذا كان الروائيون والقصاصون غالبا ما يميلون إلى نفي تشابه شخصياتهم ووقائع رواياتهم مع الواقع، فإن فركوح يسير في طريق مغاير يتمثل في الإقرار بالصلة المباشرة بين رواياته ومرجعياتها الواقعية والسيرية، فيقول مثلا في عتبة تنبيهية في رواية “أعمدة الغبار”: “جميع الشخصيات حضرت من أرض الواقع وبنيت من وقائعه ابتداء. لكنها ليست هي، أبدا، في حركتها وتفاصيلها وملامحها ضمن السياق الروائي (من غيري يمكنه التأكيد أو النفي؟) لذا؛ أي شبه أو تماهٍ -إن وقع- فإنه من مستتبعات حالة تفاعل النص مع مرحلته بأوجه مدلولاتها” (فركوح، أعمدة الغبار، ص: 4).

وضمّن فركوح رواية “غريق المرايا” جزءا من يومياته المكتوبة عام 1971 بقليل من التعديل، واليوميات نوع من الأدب السيري تحيل إلى تسجيل الواقع الفعلي والتاريخي غير المتخيل، ولكنها حين تتعين في الرواية تكتسب في السياق السردي وظيفة جديدة متطورة.

وفي كتابه “رسائلنا ليست مكاتيب” الذي نشر فيه رسائل متبادلة مع صديقه الراحل مؤنس الرزاز بين 1976 و1981، وعددها 21 رسالة، وضع رسائل جديدة ذات طبيعة استئنافية تعوّض من جهة عن رسائله وردوده الضائعة، وتسمح بقراءة جديدة ومناقشة جديدة لتلك الوثائق/الرسائل. في هذه الردود أو الرسائل الجديدة كثير من الخيوط السيرية والتصريحات المهمة التي تفيد القارئ في معرفة تفاصيل عالم فركوح، وخصوصا بعض العلائق بين سيرته وكتابته. وهي علائق يصعب أن تفسرها النصوص وحدها.

وعلى سبيل المثال، نفيد في هذه الرسائل فوائد قيمة عن شخصية متكررة في قصصه وروايته هي شخصية “مروان” الذي حضر في قصة قصيرة مهمة عنوانها “مروان” أولى قصص مجموعة “إحدى وعشرون طلقة للنبي” (1981)، كما حضر أيضا في ذكريات “خالد الطيب” عن عمان في رواية “قامات الزبد” على امتداد صفحات كثيرة، حيث تمثل هذه الشخصية الحضور الباقي لصديقه الشهيد مروان النجداوي، ويساعدنا الإيضاح الذي ضمّنه فركوح في كتاب “رسائلنا ليست مكاتيب” على تفهم هذه الشخصية وسبب تردادها وطريقة ظهورها في سرديات فركوح.

وهنا يمكننا أن نتوسع قليلا ونتذكر ما أشرنا إليه من الانتقال من العام إلى الخاص، فمروان النجداوي ضحية من ضحايا حقبة أيلول الأسود عام 1970، حيث نشب الصدام الدامي بين قوات الجيش وفصائل المقاومة الفلسطينية، وعوضا عن تناول تلك الحقبة تناولا خارجيا موضوعيا، فإن فركوح يتناولها من منظوره وألمه الخاص من خلال ظروف تلك المرحلة التي دفع هو وأبناء جيله ومجتمعه بعض ضريبتها وآلامها.

يقول فركوح موضّحا ومستذكرا متأملا “كان مروان النجداوي زهرتنا المندّاة. ربما لأنها كذلك طاب للموت أن يقطفها هي الأخرى، وأبكر مما يرضى الله عن ذاك التوقيت.. كما أعتقد وآمل وأرجو. حدث هذا في عام 1970، أي قبل 32 سنة من رحيل مؤنس، و43 سنة من الآن! مات مروان قنصا غادرا تحت جنح الظلام، عند مظلة شرطي المرور وسط البلد، تحت شرفة مقهى السنترال، على مبعدة من بيتي آنذاك في نهاية زقاق مطعم هاشم! لم يغظني شيء أكثر من موت مروان وطريقة قطفه، فما كان مني إلا أن أكتب قصته باسمه (مروان) لتكون أولى قصص مجموعة (إحدى وعشرون طلقة للنبي)” (رسائلنا ليست مكاتيب، ص: 44).

مؤدى القول إن أبطال فركوح هم الروائي نفسه وشخصيات من أصدقائه ومعارفه وأبناء جيله، قد يمنحهم أسماء أخرى في الرواية، ولكنه لا يحصر نفسه بأهداف السيرة وذرائع كتابتها وغاياتها، وإنما يتطلع إلى كتابة سيرة جيله استنادا إلى خبرته، وإلى معرفته المباشرة، كأنما يستند فيما يستند إلى ظاهراتية باشلارية لا تخفى ضمن الخيوط الفكرية التي عمّقت أدبه وأخرجته من الحدود الضيقة للسيرة الذاتية الخالصة.

سرد متداخل

ومما تتميز به تجربة فركوح السردية أنها تشبه أن تكون نسيجا متداخلا شديد الأناقة والدقة والضفر من ناحية انفتاح السرد القصصي والروائي على مختلف الأجناس والأنواع، فتجد في نسيجه السردي: اليوميات، الشعر، السيناريو، السينما، الفن التشكيلي، الشذرات الفلسفية، اقتباسات من مواد صحفية متنوعة.. إلخ، مستفيدا من مبدأ أولي في الرواية بوصفها جنسا مفتوحا قابلا للتشكل.

وفي هذا الملمح يمكن تقديم تحليل طويل حول ظاهرة معقدة أبعد بكثير مما يسمى بتداخل الأجناس والأنواع، ذلك بأنها في نص فركوح ضرب شديد التفاعل والتضافر، وليست مسألة تجريبية أو فنية بحتة، إنها من صميم مبدأ التقاطعات التي أشرنا إليها، وتمتّ بأكثر من سبب إلى منظور “اليمبوس” ذي الطبيعة البينية المتحوّلة.

إنه بمعنى ما يقيم في منطقة “يمبوس” الأجناس والأنواع، ولا يميل إلى الرواية المحافظة على القواعد، فالثبات قيد والتغيير حرية، كما عنون إحدى شهاداته، وليس هناك قاعدة إلا التغير والتبدل، وبمطالعة قصصه ورواياته نقف على هذه الظاهرة الحيوية التي ينبغي التعمق في قراءتها وطلب خصوصيتها، ذلك بأن تحولات الشكل فيها تستند إلى طبيعة الرؤية وآليات تشكّل المعنى، مما يجعلها ظاهرة شديدة العمق والأصالة.

في مستوى آخر يصلح للتأمل، يمكن مساءلة هوية الكاتب وتصوره أو رسمه لها، الهوية على مستوى الذات بما فيها من تمازج وتنوّع ورحابة، فما يلائم فركوح ويناسب طبيعته ضرب من “الانعتاق من سجن الهوية وحيدة البعد” (النهر ليس هو النهر، ص: 25)، ويشمل هذا فيما نظن الهوية الثقافية بمعنى الانتماء، والهوية الأدبية التي تتمنع إزاء سجن الكاتب في جنس أدبي واحد.

وقد كتب إلياس فركوح في واحدة من شهاداته الأخيرة النادرة عن أصل من أصول تكوينه الغني بتنوّعه، بين أصوله اليونانية غير البعيدة، إذ جدّه المباشر طبيب يوناني/عثماني اسمه “باسيل سيدراكودس”، قدِم إلى دمشق ضمن إحدى وحدات الجيش التركي، تزوّج فتاة حمصية عربية هي جدّته عفيفة، ثم غاب عنها بعد أن خلّف لها ابنا هو جورج، والد إلياس، وابنتين هما عمّتا إلياس (أولغا، وخركليا) اللتان حملتا اسمين يشهدان بالأصل اليوناني.

يقول إلياس في شهادته التي قدمها في المؤتمر الدولي الثالث للغة العربية وثقافتها في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو الإيطالية في مارس/آذار 2017، “أراني على نحوي أنا: إلياس، ابن جورج، ابن باسيل سيدراكودس! واستتباعا لهذا التتابع القصير، الموثّق في أوراق رسميّة محفوظة، يمكنني الزعم بأني جئتُ إلى العالم من صُلب أبٍ لأبٍ يونانيّ لم أعرفه أبدا إلّا بوصفه “صورة”: صورة مطبوعة على بطاقة عتيقة مقواة شابها لونُ الاصفرار، لكنها ما زالت محتفظة بتماسكها. تماسكُ البطاقة في اليد وتحت الأصابع وداخل صندوق قديم، وتسلسل صريح للأسماء.

لكن هذا التماسك، في إشارته إلى “المَنْبَت” والتأكيد الدائم على “الأصل”، وعند تأملي له الآن أجده يتفكك متحللا إلى “حكاية” ظريفة تُروى فتثيرُ الدهشة وكأنها ليست حكايتي الشخصية، وشَبَحٍ يتوارى في خلف الخلف هناك في عَطْفةِ تاريخٍ منمنم مثل قطعة أرابيسك. أو، في أحسن الأحوال، يختلط في النَّسَب اللاحق الذي بِتُّ أُعْرَف به: فركوح”.

ولقب فركوح هو اسم عائلة الجدّة عفيفة التي يبدو أنها تولّت زمام الأمور فنقلت ابنها وابنتيها إلى نسبها الأمومي عوضا عن النسب الأبوي اليوناني، بعد غياب الأب أو وفاته وانقطاع الصلة به. أما عائلته الجديدة “فركوح” فهي -كما يذكر النسابون- من أصل عربي غسّاني تسكن في حمص من أرض الشام وما حولها، وانتقلت بعض فروعها إلى دمشق وإربد وعمان، وما زال لها وجودها في حمص ودمشق وعكا.

عمل الأب جورج في عمان في مهنته التي تعلّمها في دمشق وهي خياطة الثياب، وأقام مع أسرته الجديدة وزوجته (أديبة ربّوع، والدة إلياس) وسط المدينة التي ولد فيها إلياس وشهدت ضفاف سيلها القديم وأسواقها التقليدية طفولته وذكرياته وصداقاته المبكّرة. ومن هنا جاء انتماؤه العمّاني، فهو ابن عمّان بتنوّع أصولها ومنابتها، وهو من مواليدها وأبنائها الخلّص الذين لم يتكوّنوا خارجها، وإنما في قلبها النابض بالتنوع والعطاء.

ويبدو أن هذه السردية الشخصية والعامة في آن يمكن أن تكون مفتاحا من مفاتيح قراءة شخصية إلياس نفسه، بروحه المتنوعة وثقافته المنسوجة من خيوط غنية باختلافها وتنوعها، ونتج عن كل ذلك تمازج قوي منفتح على الإنسانية والعطاء والتنوع.

أما الدرس القوي الذي يُستخلص من هذه السردية التاريخية غير الخيالية فيكثفه إلياس لنا بالقول: “ما أريد إبلاغكم به هو ما استخلصته مما سبق: إنّ الامتزاج بين الأوروبيّ الممثَّل بجدي اليوناني، المُجَسِّد بدوره لِبُعدٍ ثقافيّ ما، والعربي الممثَّل بجدتي السورية، المُجسِّدة لِبعْدٍ ثقافي آخر، كان أن “خلقَ” مني إنسانا إذا ما حدثَ وأنْ تساءل عن “هُويته”، فإنما يفعل هذا من دون قَلَقٍ أو خوف أو تعصُّب. كما أنّ “مسيرة” الأنساب وتحولاتها، بحسب ما ذَكَرْتُ، أبعدتني بعفويةٍ وإلى حد كبير عن التباهي الذكوري واستعلائه، فها أنا أحملُ النَّسَب الأموميّ، لا الأبويّ، وكأني أشطحُ باتجاه الرؤية المنادية بالطبيعة أُمًّا أُولى ألتحقُ بها.. وأفتخر”.

وعلى هذا النحو منحته مصادفة أصوله وأنسابه نعمة الهوية المتعدّدة المركّبة، بدلا من الهوية الواحدة المحدودة، وبنى على ذلك التنوع والتركيب أكثر آرائه الفكرية والأدبية، من موقف النظرة إلى اختلاف الثقافات والحضارات، وحتى تداخل الأجناس والأنواع الكتابية.

وفي ضوء ذلك لا نستغرب حنو قصته وروايته على الشعر والمسرح والصحافة والفنون المختلفة، من الناحية التقنية، كأنها تتجاوب مع ذلك التنوع الخصب الذي تخبئه روح فركوح وتكوينه العميق، مثلما تعكس تنوع الشخصيات والأرواح التي يكتب عنها ويحاور أعماقها، بحيث يغدو النسيج السردي كرنفالا للتنوع والتداخل بعيدا عن واحدية الجنس والنوع الأدبي، وبعيدا عن فكرة السمات الخالصة أو النقية التي ينادي بها بعض الأدباء للتمييز بين الأجناس.

وفي نهاية مقالتنا إذا كان لديك أي اقتراحات أو ملاحظات حول الخبر، فلا تتردد في مرسلتنا، فنحن نقدر تعليقاتكم ونسعى جاهدين لتلبية احتياجاتكم وتطوير الموقع بما يتناسب مع تطلعاتكم ونشكرًكم علي زيارتكم لنا، ونتمنى لكم قضاء وقت ممتع ومفيد معنا.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: لا يمكنك نسخ المقالة